لدينا فائض من نظريات المؤامرة. بعضها يبدو مجنوناً، وبعضها مثير للريبة، لكن الأكيد أن جميعها يصلح للسخرية بغضّ النظر عن التصديق من عدمه. (الأرض مسطحة وليست كروية) وإذا وصلت إلى حافة العالم فستجد سوراً شاهقاً يمنعك من الوقوع في الفضاء. (الاستخبارات البريطانية دبّرت مقتل ديانا في حادث السير بباريس) وما زالت أمهاتنا يؤيّدن هذه النظرية ويتحسّرن على الأميرة الراحلة كلما شاهدن حفل زفاف أحد أبنائها، قبل أن تتجهّم وجوههنّ ويدعين على تشارلز وأمه! (الماسونية تسيطر على العالم) ولسنا سوى عرائس متحركة، فاحذروا من الأشكال المثلثة والهرميّة التي ترمز إليهم، وأولها السمبوسة! (الإنسان لم يهبط على سطح القمر، وما تلك إلا تمثيلية للتفوق على السوفييت في الحرب الباردة) وإن كنت ممّن يؤمنون بهذه النظرية ويتعصّبون لها؛ فعلى الأرجح أن فيلم First Man لن يعجبك.
حجزت تذكرتي لفيلم «أول رجل»، وشاءت الصدفة أن أكون أول رجل يدخل القاعة. وتملّكني شعور بأنني وسط مركبة فضائية ستحلّق خارج الغلاف الجوي بعد قليل، لكنّ خيالي سرعان ما تلاشى حين دخل القاعة مزعج من شباب يثرثرون ويقهقهون ويدخنون أعشاباً بنكهة التبن، وغادروا القاعة بعد مرور نصف ساعة متذمّرين من أن الفيلم خالٍ من الأكشن.

سطح القمر

يتناول الفيلم قصة رائد الفضاء الأميركي نيل آرمسترونغ، أول إنسان يهبط على سطح القمر، إذ يقرّبنا من حياته الشخصية والعائلية، ويستعرض الظروف التي أدّت إلى التحاقه بوكالة ناسا، والدورات التدريبية التي خاضها، ومهمّته الفضائية الأولى التي أهلته فيما بعد لقيادة طاقم الرحلة (أبولو 11) في 20 يوليو 1969 ليصبح أول إنسان تطأ قدماه سطح القمر، ويقول عبارته الشهيرة: «هذه خطوة صغيرة لإنسان، لكنها قفزة عملاقة للبشرية».
قد تبدو الساعة الأولى من الفيلم مملة للبعض، لكنها ضرورية لإظهار المصاعب والعقبات التي واجهت روّاد الفضاء قبل تحقيق إنجازهم بالهبوط على القمر. فيلم First Man يمنح الأولوية للإنسان، إذ يُلقي الضوء على أفكاره وعواطفه وصراعاته الداخلية، ويتوّج ذلك كله بمشهد عظيم في الفضاء، حيث يتحقق الحلم على سطح القمر، ويتحرر آرمسترونغ من حزنه كما يتحرر من الجاذبية، ويصبح الماضي حينها بعيداً مثل كوكب الأرض.
مخرج First Man داميان شازل هو نفسه مخرج La La Land، وهذا سبب كافٍ لأتعصب للفيلم. وبصمة داميان واضحة خصوصاً في مشهد الهبوط على القمر، فما زلت منبهراً بالصورة السينمائية الساحرة التي صنعها هذا الفنان، مستغلاً الضوء والظل، ومنظر الأرض من زوايا مختلفة، ومتلاعباً بمشاعرنا بالموسيقى التشويقية المتصاعدة، والتي تتوقف فجأة وسط الصمت الكثيف على سطح القمر، ليبدو الأمر أشبه بمناجاة شاعرية بين الإنسان وهذا الجرم السماوي الغامض.

طاقم مخضرم

رايان غوزلينق، تألق في دور البطولة، حيث أقنعني بأدائه المتزن وغير المتكلف، وبتعابير وجهه التي تفصح أكثر مما يفصح لسانه. أما كلير فوي، فقد أثارت كل ما تبقى من دهشتي ببراعتها في تقمص شخصية زوجة آرمسترونغ. وعموماً فإن طاقم التمثيل في معظمه مخضرم ويتسم بالجدية ويحوي وجوهاً معروفة حتى في الأدوار الثانوية، وهذه نقطة قوة أسهمت في تماسك الفيلم.
شنّ الكثيرون في أميركا حملة غاضبة على مخرج First Man لأنه لم يظهر لحظة غرس العلم الأميركي على سطح القمر، ودافع داميان عن موقفه بأنه أراد التركيز على قصة نيل آرمسترونغ نفسه، وتناول إنجازه التاريخي من زاوية لم يتطرق لها أحد من قبل. وأؤيد موقف المخرج هنا، إذ إنه أراد أن ينأى بالفيلم بعيداً عن القضايا والجدل وترويج الحلم الأميركي، وأراد أن يركّز على الجانب الفني والإنساني. فإن كنت ستشاهد الفيلم؛ تجرّد من أحكامك المسبقة حول مصداقية الهبوط على القمر، واحكم عليه في إطاره الفني الجماليّ، بعيداً عن النظريات والتحليلات، وإن كنت مصراً على اعتباره كذباً، فما المانع من الاستمتاع بكذب جميل؟
تأمّلوا القمر وأنتم تستمعون للحن Quarantine, by Justin Hurwitz من فيلم First Man. سنلتقي هناك!