عام 1925 قدم المخرج الروسي الكبير والرائد السينمائي سيرجي أزنشتاين، المولود في 23 يناير عام 1898 في لاتفيا، أول فيلم روائي طويل له بعنوان «إضراب» Strike، والذي نال تقديراً كبيراً جعل اللجنة المكلفة بتنظيم حفلات ذكرى الثورة، تكلفه بتصوير فيلم عن ثورة 1905، والذي حوله فيما بعد فيلماً عن أحد أحداث هذه الثورة، وأكثرها تعبيراً عنها، وهو فيلمه الأشهر والأكثر تأثيراً في تاريخ السينما «المدرعة بوتمكين» Battleship Potemkin، الذي جعل لجنة تحكيم من مؤرخي السينما في 26 دولة، تعلن في بروكسل عام 1958 أن فيلم «المدرعة بوتمكين» هو (أفضل فيلم في العالم)، وكانت قبل ذلك بعشر سنوات، عام 1948، قد اتفقت آراء النقاد العالميين كذلك على وضع «المدرعة بوتمكين» على رأس قائمة أفضل عشرة أفلام أنتجتها السينما حتى ذلك التاريخ.
ولاحقاً يعتقد الناقد الأميركي الشهير ليونارد مالتين، أن مشهد درجات الأوديسا في فيلم «المدرعة بوتمكين» ربما يكون أشهر مشهد سينمائي في التاريخ! بينما يعتقد البريطاني جون جيرسون، أحد أشهر منتجي الأفلام التسجيلية، «أن حركة الأفلام التسجيلية البريطانية قد ولدت من آخر بكرة لبوتمكين».

خارطة عالمية

فيلم «المدرعة بوتمكن» وضع اسم أزنشتاين على الخارطة السينمائية، ليس كمخرج عالمي فقط، ولكن كرائد من رواد السينما، احتوى الفيلم على أساليب مونتاج، ولقطات مقربة، لا تزال تدرس حتى الآن في مدارس السينما حول العالم، لقد برع أزنشتاين في تصوير المعاناة البشرية في فيلمه إلى الحد الذي سبب اضطرابات في بعض صالات السينما خارج روسيا؛ لأن بعض المشاهدين اعتقدوا بأن ما يرونه هو فيلم إخباري قصير. لقد كان الفيلم برهاناً ساطعاً لنجاح نظرية أزنشتاين في المونتاج، التي يعمد فيها إلى جمع لقطتين مستقلتين تماماً يشكل ربطهما معاً صورة ثالثة تنشأ في ذهن المشاهد، وهو ما يعرف بالمونتاج الذهني، الذي تكلم عنه أزنشتاين لاحقاً في كتبه.
كان سيرجي أزنشتاين قد أظهر موهبة مبكرة منذ طفولته، حيث برع في الرسم والتصميم، ثم تلقى تعليمه شاباً كمهندس متخصص بالهندسة المعمارية، مدفوعاً برغبة والده المهندس، إلا أن هذا الأمر لم يدم طويلاً، فبعد التحاقه بالجيش الأحمر في سن العشرين، أبدى ميلاً كبيراً للعمل الفني، وقام بتصميم عدد من المشاهد والأعمال المسرحية والدعائية المهيجة، التي كانت تعمل بهدف تنوير الجنود والعمال والفلاحين أثناء الثورة.

مسرح العمال

وعام 1920، كان آزنشتاين قد ترك الجيش لينضم إلى مسرح «العمال الأوائل» كمصمم أزياء ومناظر، ورئيساً لقسم الديكور، وفي حين أنه حقق نجاحاً جيداً من خلال مسرحية The Sage الهزلية، إلا أن اهتمامه بالفيلم والإخراج دفعه في الأخير لترك العمل في مسرح «مايرهولد» وحركة الثقافة البروليتارية؛ ليكرس نفسه للعمل في السينما، ويخرج أول أفلامه عام 1923 «يوميات غولوموف»، وهو فيلم هزلي قصير لمجموعة مقتطفات إخبارية. ولأن أزنشتاين قد درس أعمال المخرج الأميركي ديفيد وغريفيث، وتجارب مواطنه كيولوشف في المونتاج، بالإضافة إلى تقنيات الروسية إيزفير شب في إعادة تجميع اللقطات الوثائقية، كل هذا جعل أزنشتاين يؤمن بقدرة السينما على التلاعب بالزمان والمكان، في سبيل إضافة معان جديدة أو بث إيحاءات معينة للمشاهد.

تغييرات جذرية

على الجانب الآخر من حياة وشخصية أزنشتاين، وعلى المستوى السياسي، فقد كان في شبابه يحمل تفاؤلاً وإيماناً عميقاً بتلك المرحلة الجديدة في تاريخ بلاده، إلى الدرجة التي جعلت معظم أفلامه السبعة تتحول بشكل أو بآخر إلى بروباغاندا شيوعية متقنة، تدور في معظمها حول الصراع الطبقي تارة، أو عن أحداث الثورة البلشفية تارة أخرى، هذا الإيمان المطلق بالثورة نجده واضحاً لدى أزنشتاين حين يقول: «أعطتني الثورة أثمن شيء في حياتي - لقد جعلت مني فناناً. ولو لم تقم الثورة لما كان من المفروض أن أحطم تقاليد الأسرة على الإطلاق، إذ كان المفروض أن أصير مهندساً».
ومع ذلك فإن هذا التوافق والحماس الأيدولوجي الذي أبداه المخرج الشاب بإخلاص تجاه الشيوعية، لم يلق في المقابل الحماس نفسه من السلطة السياسية، فبعد «المدرعة بوتمكن»، جاء فيلم «أكتوبر» ليحتفل بأيام الثورة البلشفية العشرة في 1917، لكن التعقيد الذي بدأ يظهر في هذا الفيلم لم يكن مفضلاً لدى منظري الشيوعية، الذين كان يرون بأن الفن يجب أن يكون شعبوياً وسهلاً، يصل إلى كل طبقات المجتمع ليؤدي «وظيفته الدعائية» بشكل أفضل، لهذا أعيد تحرير لقطات كثيرة من الفيلم، وهو تدخل تكرر أيضاً في فيلمه التالي «خط الجنرال»، حين اجتمع الزعيم ستالين بأزنشتاين وشريكه في الإخراج غريغوري أليكسندروف، وأمرهم بعمل تغييرات جذرية في الفيلم

«أليكساندر نيفسكي».. وسام ومنع

حدث ذات مرة، وبعدما قام أزنشتاين بعد رحلته الشهيرة لأوربا وأميركا، ولقائه بالعديد من نجوم السينما، مثل شابلن وديزني وفلاهيرتي، وتصويره أحد الأفلام، أن يواجه ضغوطاً مالية وأخرى سياسية من ستالين نفسه، دفعته للرجوع إلى موسكو مع وعود بأن ترسل إليه المشاهد التي قام بتصويرها ليحررها، ولكنه لم يرَ مشاهده مرة أخرى، وهو ما جعله يصاب بانهيار عصبي تلو الآخر، فبعد رجوعه، كانت أفكاره الأصلية والجريئة ترفض بفظاظة، وبالذات من رئيس صناعة السينما السوفيتية بوريس شوماتسكي، الذي كان يريد صنع «هوليوود ستالينية» شعبية ومبهرجة، وهو ما جعل أزنشتاين يلجأ إلى رئاسة قسم الإخراج في معهد موسكو السينمائي ليصبح معلماً وباحثاً لسنوات.
وفي دلالة واضحة على التقلبات السياسية التي كان على أزنشتاين التكيف معها، يكفي أن نعرف أنه منح عن فيلم «أليكساندر نيفسكي» وسام لينين عام 1938، ثم بعد توقيع معاهدة سلام مع ألمانيا، وضع الفيلم على الرف بكل هدوء، ولكن ما إن اجتاح الألمان الأراضي السوفيتية، حتى عاد الفيلم إلى العرض مرة أخرى.