تاريخ الغناء العربي هو رحلة الكلمة المموسقة خلال مسيرة إبداعية فريدة، تهادت من عمق الزمان ووصلت مضارب الحاضر واستشرفت المستقبل، لتشكل إرثاً فنياً «دوزن» لإنسانية الوجدان العربي وانفعالاته في تعاطيه لهذا «الخلق الإبداعي» المجدد لجمال الروح والحياة، وليؤرخ أيضاً لأحداث التفاعل الحضاري بكل أنواعه في عمق المجتمع. وبترانيم من جمال، نقشت الذاكرة الفنية العربية على جدرانها أصواتاً خالدة صنعت دهشة لا تنقضي. «زهرة الخليج» تستعرض بعضاً منها.


بدأ العصر الذهبي للغناء العربي  في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في مصر خصوصا في عهد الخديوي إسماعيل الذي كلف الموسيقار الإيطالي فيردي بتأليف أوبرا عايدة وبناء دار الأوبرا المصرية واحتضن الخديوي عبده الحامولي (1836-1901) الذي أدخل المقامات الشرقية في الغناء المصري، حيث استخدم مقامات لم تكن موجودة في مصر كالحجاز كار والنهاوند والكرد والعجم، وعرف عنه رقيه في اختيار الكلمة، كذلك برز الشيخ سلامة حجازي (1852 -1917) الذي

بدأ حياته قارئاً للقرآن الكريم وتعلم أصول فن الإنشاد وأوزان النغم والأداء. ويعتبر رائد فن الغناء المسرحي وأيضاً عد سيد درويش واحداً من أهم الموسيقيين العرب على مدار التاريخ، فهو مجدد الموسيقى العربية.

تطور وحداثة

تطورت الموسيقى المصرية والعربية وفن الغناء سريعاً، باستبدال التخت بالأوركسترا وإدخال الآلات الموسيقية الأوروبية التي لم تكن معروفة للمصريين والعرب، منها الكمان والكونترباص والبيانو وسواها. ومن الأساتذة الذين خاضوا مضمار التطوير في مطلع القرن العشرين الفنان الكبير محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، ومحمد فوزي، كما ابتكر الشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي الأغنية المطولة.

كوكب الشرق

قدم كبار المطربين والمطربات العرب الكثير من العطاء للموسيقى العربية، أمثال أم كلثوم، التي  بدأت الغناء وهي طفلة صغيرة مع والدها في الموالد والأفراح، وكونت أول تخت موسيقي لها في عام 1926، ثم تعرفت إلى الشاعر أحمد رامي ثم الملحن محمد القصبجي لتصدر عام 1928 مونولوج (إن كنت أسامح وأنسى الأسية)، وتعتبر فترة الستينات من أبرز الفترات الفنية لأم كلثوم، حيث أصدرت العديد من الأغنيات الناجحة منها (أنت عمري، الأطلال).

علامة فارقة

في صدر الإسلام مثل الاستقبال الحافل للرسول الكريم، في المدينة، والذي شارك فيه الرجال والنساء والصبيان حفلاً موسيقياً كبيراً وفي حضرة الرسول، بعد أن هرع أهالي المدينة لاستقباله واشترك في الغناء النساء والأطفال فرحين بقدومه وهم ينشدون: (طلع البدر علينا/ من ثنيات الوداع.. وجب الشكر علينا/ ما دعا لله داع)، وتعتبر هذه الاحتفالية علامة فارقة في تاريخ الغناء والموسيقى العربية.


صوت الجبل

في لبنان ترك المطرب والملحن وديع الصافي بصمته في الموروث الفني العربي، وكان له الدور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، وأصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في لبنان فقط، بل في العالم العربي. كما برزت الفنانة اللبنانية فيروز بمرتبة خاصة في  مجلة «فوربس الشرق الأوسط»، حيث صنفتها كأعظم نجوم الفن لكل العصور، حيث عرفت طريقها للشهرة بعد صدور ألبومها الغنائي الأول «عتاب» عام 1952.
 

جيل ذهبي

من سوريا صدح صوت ميادة الحناوي والتي لقبت بمطربة الجيل، وصنفت في الصف الأول بين المطربات العربيات، لحن لها كبار الملحنين العرب أمثال بليغ حمدي، رياض السنباطي، وقد حققت شهرة وجماهيرية كبيرة في ثمانينات وسبعينات القرن الماضي. وفي تلك الفترة برزت كذلك أصوات أثرت في الوجدان العربي بشكل كبير وحلقت به إلى مراقي الطرب العالي، أمثال عبد الحليم حافظ وأسمهان وصباح فخري ووردة الجزائرية وصباح وناظم الغزالي ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وسعاد محمد. وبعضهم غنّى الأغنية المطولة مع الأوركسترا الكبيرة التي يصل عدد العازفين فيها أحياناً إلى خمسين عازفاً.

إبداع خليجي

في منطقة الخليج وضع الفنان طلال مداح بصمة قوية في تاريخ الغناء الخليجي والعربي في القرن الـ20، وهو رائد الحداثة بالأغنية السعودية، لأنه أول من قدم فرقاً موسيقية متكاملة ضمن غناء الجزيرة والخليج، كذلك كان أول من حدّث وطور الأغنية السعودية بأول أغنية تغنت على نمط الكوبليهات، وهي «أغنية وردك يا زارع الورد» التي كانت من ألحانه. من السعودية أيضاً أطرب الفنان محمد عبده الملايين ويعتبر من أشهر الفنانين العرب الذين عاصروا الجيل القديم والحديث.

أزمان الازدهار

شهد العصر الأموي نهضة غنائية وموسيقية تلقت الدعم والرعاية من الخلفاء الأمويين وجاء اسم ابن محرز كأهم أعلام العصر الأموي موسيقياً بعدها أخذت النهضة الموسيقية سبلاً جديدة متوخية الطرائق العلمية، وكان (يونس الكاتب) أول من كتب في هذا الموضوع، ويصفه أبو الفرج الأصفهاني بأنه أول من كتب عن الغناء والموسيقى عند العرب، وله (كتاب النغم) و(كتاب القيان)، والقيان هن الجواري المختصات بالغناء. ففي أيام العباسيين حدثت ثورة حقيقية على يد إبراهيم الموصلي وولده إسحاق وإبراهيم بن المهدي، فأخذ الغناء والموسيقى بعداً جديداً، جراء الازدهار الاقتصادي فنشطت الترجمة وتنوعت القيم المعرفية، فأصبحت الموسيقى في بدء هذا العصر أو كادت تكون علماً مستقلاً. أما في الأندلس، فأطل زرياب 857 -789 كأهم الأسماء، إذ استطاع هذا الموسيقار الطموح والذي اشتهر باسم (العندليب المغرد) أن ينفذ مشاريعه الفنية في نشر الموسيقى الشرقية من خلال تأسيسه لأول معهد للموسيقى هو الذي قام بإضافة الوتر الخامس إلى العود ليكمل بها مجموعة رائعة من النغمات التي تخرج منه.

عراقة الموسيقى

عن عراقة الموسيقى العربية والغناء ذكر المستشرق البريطاني «هنري جورج فارمر» في كتابه (تاريخ الموسيقى العربية حتَّى القرن الثالث الميلادي) أن نقش «آشوربانيبال» الذي يعود تاريخه للقرن السابع قبل الميلاد، يثبت أن العرب كانوا يمضون ساعاتهم في الغناء والموسيقى التي كان يطرب لها آسروهم الآشوريون، فيطلبون المزيد منها. أما بخصوص أصالة الغناء العربي في العصر الجاهلي، فيقول بعض المؤرخين إن أهل المنطقة عرفوه أول الأمر باسم الحداء ومعظمهم يتفقون على أنه كان عند العرب أشكال مختلفة من الموسيقى والغناء في الفترة ما بين القرنين 5 و7 م. وكان عربي ذلك الزمان يؤثر سماع الغناء الصوتي على العزف الآلي، ليتسنى له بذلك تذوق معاني الشعر. أما الآلة الموسيقية فلا مهمة لها إلا مرافقة الغناء الصوتي والتمهيد له مع ذلك وتدل هذه الآراء المبنية على الاكتشافات الأثرية على أن العرب كانوا من بين الأمم التي تذوقت الموسيقى وأحسّت بجمالها، وابتدعت آلاتها.