بربارة نصار.. اسم يعرفه جيداً كل مريض بالسرطان في لبنان.. هذه الصبيّة التي تحدّت مرضها «الخبيث» بابتسامة وانتصرت عليه بقرار، وماتت وهي تُردّد: «مش مُهم نعدّ سنين الأهم كيف مِنْعِيشَا».

يوم عرفت بربارة نصار أنها مصابة بـ«سرطان الثدي» اتّكأت على زوجها هاني، ابتسمت له وهمست في أذنيه بكلمتين: «بالحبّ ننتصر».. وبدأت حكاية مليئة بالأمل.
في منزل بربارة وهاني نصار كثير من الدفء، فيه طاقة إيجابية عالية، فيه إيمان بأن لا مستحيل أمام الإرادة الفولاذية، وبأن الموت ليس دائماً نهاية المطاف، وبأن لحظات الضعف يُفترض ألّا تتعدّى اللحظات.

ابتسامة صادقة
 
صُورها قبل أن يصيبها السرطان كثيرة. عينان واسعتان وابتسامة صادقة وإرادة حديدية ظاهرة ملفتة، وهاني مثلها وهي مثله، وهي التي ولدت يتيمة ونوَت أن تُصبح راهبة، وزوجها هاني أراد أن يُصبح كاهناً. تعرّفا، أحَبّا بعضهما البعض وقرّرا أن يتزوجا، وبات العمل الصالح ثالثهما. ويتذكر هاني: «التقينا صدفة وتعاهدنا على متابعة رحلة العمر في السرّاء والضرّاء، وأسّسنا أنفسنا بأنفسنا، وأطعَمَنا الله فتاةً وفتى (ليوني) و(ليونار). وفجأةً بدأت بربارة تتوّعك، عيناها باتتا أكثر احمراراً، عانت التهابات قوية، وتَبيّن إصابتها بـ«سرطان الثدي». وتطورت حالتها وانتشر الخبيث إلى العظام. انكسرت خرزة من خرزات رقبتها، تألمت كثيراً، عظامها بدأت تُصاب بالاهتراء، بدأ المرض يأكل عظامها، حصل كل هذا بسرعة هائلة، وأصبح همّنا الأهم منع حدوث الشلل الكلّي، خضعت لعملية جراحية خطيرة جداً وخرجت منها حيّة. خضعت لعلاجات كيميائية وشُعاعية وإلى أكثر من 120 جلسة أشعة في منطقة محددة واحدة.. فقررنا منذ تلك اللحظة أن نشكر الله كل صباح على كل يوم إضافي يمنحه لنا. قيل لنا لن تعيش بربارة أكثر من ستة أشهر. قلنا لهم: «ما يَعرفهُ الله يَجْهَلهُ سِواه». حصل هذا عام 2009.

رحلة عُمر

أبَت بربارة أن تنتظر الموت وقررت أن تُعاند ولا تستكين. فقررت هي وهاني أن يستأجرا «كارافان» قاطرة ومقطورة ويَجُولان في الضيَع اللبنانية، في 1655 ضيعة لبنانية في 26 قضاء، في رحلة عُمر يرافقهما فيها (ليوني) و(ليونار)، وينشران فيها التوعية ضد السرطان وأهمية الوقاية المبكرة، وراحوا يتنقلون من مكان إلى مكان، حاملين مع الحب الكبير والإرادة الفولاذية، الدواء الكيميائي الذي يُفترض أن تخضع له بربارة في جلسات علاجية. كانوا يدخلون في كل مرة أقرب مستشفى إليهم ويتابعون منه «رحلة العمر».
وظلت بربارة تبتسم. ظلت تتحامل على آلامها وتقول للبشر الذين ينتظرونها في الضيَع اللبنانية: «ما تخافوا تقولوا أنكم مرضى.. بدكُم تنتصروا على المرض بدكم تسمّوه».

على كرسي متحرك
 
في 16 أغسطس عام 2012، لم تعد بربارة تقوَى على الحراك. أدخلت المستشفى إلى جناح يُقيم فيه من شارفوا على الموت من مرضى السرطان، دخلت إليه وصمدت فيه أكثر من عامين، وبدل أن تعيش أوجاعها باتت تسأل عن أوجاع الآخرين، ثمّة مرضى لا يتمكنون من العلاج، ثمة مرضى لا يتمكنون من الحصول على علبة الدواء.
يتابع هاني قائلاً: «في هذه الأثناء كان الأطباء الذين يرون بربارة ويهمسون باستغراب: لا تزال حيّة؟». أعطوها أشهر ثم أيام ثم ساعات، واستمرت تُعاندهم ولا تستريح، وربحت المرأة القوية وهي في المستشفى تموت رحلة سفر إلى فارنا. قالت لهاني: «أريد أن نسافر كلنا مع ليوني وليونار»، أخذت 240 ملّيجراماً «مورفين» في اليوم، وسافرت على كرسي متحرك.

حياة مليئة بالحب

كانت بربارة مُتشبّثة بالحياة ومليئة بالحب إلى كل الناس. وذات يوم في عيد زواجها، فوجئت باحتفال أعَدّه لها هاني. وتحامَلت على الآلام كافّة، ورقصت على أغنية أعدّها هاني للمناسبة، وتقول: «بعد سنين من الهَنَا صار الأنَا إنتِ وإنتِ أنا... قومي يا طير الفينيق إذا رحتِ إنتِ شو بيبقى من الأنا». وفي اليوم العالمي لمرض السرطان عام 2014، سمع وزير الداخلية اللبناني مروان شربل، مُناشدة من امرأة تموت: «أحلم بجمعيّة على اسمي تَرْعى مرضى السرطان حتى ما يصير فيهم مثلي». في اليوم التالي أتاها اتصال من الوزير، الذي وقّع بالموافقة في 4 فبراير عام 2014.

جمعية لدعم مرضى السرطان

ماتت بربارة في 27 فبراير عام 2014، بعد أيام قليلة من حيازتها على موافقة بتأسيس جمعية «بربارة نصار لدعم مرضى السرطان» معنوياً ومادياً. ماتت مطمئنة بعد أن جالت في 80 يوماً على أكثر من 1655 بلدة لبنانية، على مدى مساحة لبنان، جامعةً تواقيع مَخاتير البلدات والمناطق، عنوان وحدة الشعب اللبناني، وأكثر من 13 ألف صورة تُخبر حكايتها مع الأمل، وأنّ إرادة الحياة أقوى من الموت. ظلت بربارة حتى اللحظة الأخيرة مهمومة بشؤون أبعد من الأنـا، على الرغم من كل آلامها وإدراكها أنها تَلفَظ آخر أيام العمر، أنجزت بربارة كل ما كانت تُريد إنجازه وغادرت.
نُراقب ذاك البريق في عَيْني ليوني وهي تسمع قصة بربارة، والدتها، فنحار بهذا الصفاء. يشعر بنا هاني فيُسارع إلى القول: «أخذت ليوني السلام الداخلي من والدتها، هي بربارة صغيرة. ليونار قويّ جداً أيضاً. سُئل مرّة: هل تبكي كثيراً على غياب أمك؟ أجاب: «مَن له مثل أمي يفرح».
مضى على إنشاء جمعية «بربارة نصار لدعم مرضى السرطان» خمسة أعوام، وهي كما أرادتها البطلة بربارة، لا تهدأ، مثلما كانت هي لا تستكين، من أجل عدم ترك مريض سرطان بلا دواء وعلاج، أصبحت بربارة نصار، الجمعيّة، ملجأ الكثيرين، وأصبح كل من يَعوزه دواء يدق الباب ولا يعود خائباً. نترك ليوني تعزف لأمّها التي تعرف أنها تُراقبها من السماء، موسيقى أغنية: «يا ست الحبايب يا حبيبة، يا حنَيّنَة وكلّك طِيبة، يا رَبّي يَخلّيك يا أمّي».
نبكي أو نبتسم؟ نتذكر بربارة فنرسم ابتسامة عريضة.