يقول امرؤ القيس في معلّقته الشهيرة:

ووادٍ كجوفِ العَيْر قفرٍ قطعته    بهِ الذئبُ يعوي كالخليع المعيَّلِ

فقلتُ له لمّا عوى: إنّ شأننا     قليلُ الغِنى إن كنتَ لمّا تمَوّلِ

كلانا إذا ما نالَ شيئاً أفاتهُ       ومن يحترث حرثي وحرثكَ يهزلِ

إن لم تفهم المعنى في الأبيات السابقة، فلا تبحث في جوجل أو المعجم، بل يجدر بك أن تشاهد فيلم Alpha، وستشعر بأنّ امرأ القيس أخرجَ هذا الفيلم بخياله قبل أكثر من 1400 سنة!. وربما كان حينها مستلقياً في العراء بالليل، بعد أن تعب من الوقوف على الأطلال، ولم تكن برفقته (حجازيّة العينين) ليلاعبها الشطرنج ويقبّلها (99 قُبلة). وهكذا، لم يجد من يتوجّه إليه بالحديث ويسامره سوى ذئبٍ يُشاطره الوحدة وقلّة الحيلة.

تدور أحداث فيلم Alpha قبل عشرين ألف سنة، حين كانت هموم البشر تنحصر في تأمين الغذاء والمسكن، والصراع لأجل البقاء في ظل مخاطر الطبيعة وتهديد الحيوانات المفترسة. وفي إحدى القبائل، تسنح الفرصة لأحد الفتيان للخروج في رحلة الصيد الموسمية، لكن الأمور تسوء في لحظة المواجهة، ويضطر أفراد المجموعة إلى تركه وراءهم بعد أن أصبح في حكم الميت. ومن هنا تبدأ القصة الحقيقية، حيث يلتقي الفتى ذئباً تخلّى عنه قطيعه، وعلى الرغم من أنهما عدوّان، إلا أن صداقةً استثنائية تنمو بينهما بالتدريج، يغذّيها ذلك الشعور المشترك بأنهما كائنان منبوذان من الجماعة، فيحاولان معاً النجاة في بيئةٍ لا ترحم، وبينما يسعى الفتى للعودة إلى دياره، فإنه يقول لصديقه الذئب: «لن أتخلّى عنك فأنت قبيلتي».

اكتشاف للطبيعة

شعرت بأن الفيلم مزيجٌ من Life of Pi وThe Revenant، ففي الأول ينجو فتى من تحطم سفينة برفقة نمر يشاركه رحلة الصمود في عرض المحيط، وفي الثاني يُترك أحد الصيادين وحيداً في العراء، فيقطع مسافةً طويلة في سبيل العودة، ويكابد فيها كل أصناف المشقة والعذاب.
الإبهار الحقيقي في (ألفا) يتمثّل في المتعة البصرية الساحرة، حيث مشاهد الجبال والسهول والوديان والجليد والسماء المرصّعة بالنجوم. شعرت أثناء مشاهدتي الفيلم في السينما بأنني وحيد مع الطبيعة، وأنني أعيد استكشافها مثل جنينٍ يعود لرحم أمه بوعي وإدراك رجلٍ راشد!.
 فيلم Alphaلا يتحدث فقط عن صداقةٍ بين إنسانٍ وذئب، بل يقرّبنا من الأرض التي خرجنا منها وسنعود لها، ويجعلنا نسمع نبضاتها المطمئنة وتنفّسها المنتظم قبل أن يفسد فيها الإنسان ويهلك الحرث والنسل، وكانت تلك بمثابة مناجاة صامتة وغير مباشرة طوال الرحلة العسيرة للصديقين، والتي كانت مصحوبةً بموسيقى تصويرية آسرة توحي بالعزلة والوحشة والمصير المجهول. أما سلبية الفيلم فأرى أنها كانت في النهاية المتعجلة وغير المقنعة، حيث بدت ناشزةً عن «الرتم» الذي سارت به الأحداث السابقة.

السينما صورة

حين امتدحت الفيلم على «تويتر» ردّ عليّ أحدهم بأنه عادي، وليس فيه من أحداث غير كذا وكذا، وعلى الرغم من أن الأذواق تختلف، إلا أنه من الظلم أن نحصر السينما في الأحداث والقصة، فهي قبل كل شيء صورة، وإن لم تكن تستمتع بجمالية المشهد والتفاصيل البصرية قبل كل شيء فإن الكثير يفوتك. تخيّل مثلاً أن يقيم أحدهم معرضاً فنياً للوحاتٍ رسم فيها أشجاراً مختلفة - بأحجامها وألوانها وشكل أوراقها - بأسلوبٍ إبداعي، ويأتي أحدهم ليقول: «ملل.. مجرد أشجار!». على أنني لن أتعصب لرأيٍ أو ذوق، فلو شاهدت الفيلم نفسه قبل ست أو سبع سنوات لقلت إنه ممل، لكن الذائقة تتطور وترتقي، وكلما كنت أكثر انفتاحاً على التجارب المختلفة، أصبحت أكثر إلماماً بالجمال.
حين يُنشر هذا المقال، لا أدري إذا ما كنتم ستجدون فيلم Alpha في السينما أو أن عروضه ستكون قد انتهت. لكنني أرجوكم - إن كانت لديكم الرغبة - أن تشاهدوه على أكبر شاشةٍ تملكونها، واستخدموا مكبرات الصوت التي تدفع جيرانكم إلى تقديم شكوى بخصوص الإزعاج بعد منتصف الليل، واحرصوا على أن تكونوا وحدكم، كي تعيدوا اكتشاف أنفسكم.