جزيرة هينان، الواقعة قِبالة سواحل أقصى جنوب الصين، باتت محطة الاستجمام رقم واحد لدى «الأثرياء الجدد» الصينيين، لموقعها المتميّز ومناخها المداري المعتدل جلّ أيام السنة. كما تسعى السلطات منذ سنوات إلى بناء بنىً تحتية سياحية ومدنية حديثة، ما يجذب أعداداً مُطَّرَدة من السياح، الصينيين بشكل خاص، وأيضاً من دول آسيوية أخرى. ظهرت في الصين، خلال العقود الأخيرة، طبقة من الأغنياء الجدد، بعضهم فاحش الثراء. فعقَب انتقال البلاد من نظام شيوعي مُتزمّت إلى نظام شبه رأسمالي منفلت، مُفرط الليبرالية، ركب الموجة أولئك الذين يحظون بالقدر الأكبر من الحذق وروح المبادرة، لكن أيضاً بعض الانتهازيين والوصوليين و... «أصحاب الواسطة» المقرَّبين من أعيان السلطات المركزية والمحلية. في أي حال، مع تحوّل الصين إلى «ورشة العالم»، بما يدرّ به ذلك الإنتاج الصناعي الهائل من مئات مليارات الدولارات، بَزَغَت طبقة الأثرياء الجدد تلك، الذين يُطلق عليهم محلياً اسم «باو فاهو». هكذا، خلعت الصين «الزّي الموحَّد» الذي امتازت به عُقوداً في الماضي القريب، في عهد ماوتسي تونغ و«الثورة الثقافية» والنظام البروليتاري. وفي الوقت نفسه، عافت «بلاد العم كونفوشيوس» الأحادية الفكرية والاجتماعية والمعيشية والطبقية لكي تُجرّب بدورها التعدُّدية، بما لها من مآثر وعليها من «أعراض جانبية». أقلّية مسلمة ومع بُزوغ طبقات وسطى وأخرى مُنْعَمة، نبعت بطبيعة الحال ضرورات تسويقية جديدة لتلبية متطلبات تلك الشرائح الموسرة، ومواكبة تطلعاتها وتوجهاتها، ذات الطابع البرجوازي المشوب بعقلية العولمة والرغبة، الكامنة أو المعلنة، في تقليد مظاهر الحياة الغربية. ومن بين التجلّيات الاقتصادية والاحتياجات الاستهلاكية الجديدة، يُشار إلى التطور بالغ السرعة الذي تشهده جزيرة هينان، ما يقدّم مثالاً فريداً لما أفرزته بشكل مباشر التقلبات المجتمعية الصينية المستمرة منذ عقود. كما يؤمن التطور السياحي والعمراني في الجزيرة فرص عمل كثيرة لسكانها، البالغ عددهم أقل بقليل من 9 ملايين نسمة. وعلى الرغم من هذا العدد، الذي قد يبدو كبيراً بالنسبة إلى جزيرة، فإنّ الكثافة السكانية في هينان ليست عالية جداً، إذ إنّ نسبتها لا تتجاوز 256 شخصاً في الكيلومتر المربع. فمساحة الجزيرة لا يُستهان بها، حيث إنها تبلغ أقل بقليل من 34 ألف كيلومتر مربّع، أي أكثر من 3 أضعاف دولة لبنان وتقريباً 3 أضعاف دولة قطر. لكن، صحيح أن الكثافة السكانية الإجمالية متدنيّة نسبياً، إلا أن معظم سكان هينان يقطنون في الحزمة الساحلية، لاسيّما في العاصمة «هايكو» شمالاً (بعدد نفوس يربو عن المليونين)، و«سانيا» مدينة الجنوب الكبرى (نحو 700 ألف نسمة)، وبضع عشرات من مدن أخرى، ونواحٍ وقرى أقل اكتظاظاً. ومن اللافت، أن ثمّة أقلّية مسلمة في هينان، قوامها نحو 20 ألف نسمة، مستقرة في الجزيرة منذ أكثر من 7 قرون. ويسكن مُعظم مسلمي هينان، وهم من قومية «هوي» الصينية، في قرية «ياغالان»، القريبة من «سانيا»، أكبر مدن الجنوب. «تهوين» هينان أما وسط الجزيرة وأعماقها، فتتألف بشكل خاص من غابات وأحراش مداريّة كثيفة، يصعب العيش فيها. لذا، اتخذتها مَلاذاً أقَلِّيَتا «لي» و«مياو»، اللتان تشكلان، بحسب المؤرخين، أقدم قوميتين في هينان، بعبارة أخرى سكانها الأصليين. لذا، في العصور الغابرة، لاسيّما بدءاً من نهاية القرن الرابع عشر، في عهد سلالة «منغ» الصينية المعروفة بضراوتها، طالما أصبحت الجزيرة مسرحاً لتمرّدات عنيفة من جانب سكانها الأصليين، عمدت السلطات الإمبراطورية المركزية إلى قمعها بالدم والحديد، حرصاً على عدم خسارة ما تمثله من موقع استراتيجي منيع. وذلك ما دفع تلكما الأقليّتين، «لي» و«مياو»، اللتين يبلغ تعدادهما حالياً نحو مليون ونصف المليون شخص، إلى اللجوء إلى أعماق الجزيرة والاحتماء بالغابات والأحراش، عصيّة الولوج هرباً من بطش جيوش الإمبراطور. كما يُفسر ذلك أيضاً، أنّ السكان الحاليين في أغلبهم من قومية «هان»، الغالبة في الصين. فعلى مَرّ القرون، «عَسْكرت» جحافل القوات المُرسلة من أعماق البلاد، بغية قمع الانتفاضات المتواصلة وإرضاخ المتمرّدين. وفي سعي السلطات إلى «تهوين» الجزيرة، أي جعل قومية «هان» هي الغالبة، أمرت أفراد تلك القوات بالمكوث بشكل دائم. فـ«عَشّش» هؤلاء وخلفوا ذرية كبيرة سادت في هينان، إلى أن أصبحت غالبيّة فعلاً. الروس أيضاً إلى ذلك، فإن تلك الغابات الكثيفة، عسيرة الوصول على الجيوش النظامية، أمّنت طوال قرون أوكاراً للصوص والقراصنة والهاربين من العدالة، من أنحاء الصين وأيضاً من الهند الصينية. كما كانت هينان، في الماضي، تشكل المنفَى «المفضَّل» لدى الحكومات الإمبراطورية، التي اعتادت على زج المنفيّين وعزل «المغضوب عليهم» فيها، وتركهم يَقْبَعون فيها حتى آخر نَفَس، مَنْسيِّين من العالم. كان ذلك في القرون الماضية. لكن المفارقة ليست فقط في ذلك. فحتَّى أواخر القرن الماضي، كانت هينان تتسم بالكثير من مظاهر الفقر والعوز والعزلة، ببيوت مُتداعية وأكواخ بائسة وسكان بُسطاء، يجد أغلبهم بالكاد لقمة العيش في الزراعة والصيد. الآن، «نبتت» فيها أبراج فارهة بالمئات، وتم تشييد عشرات آلاف الغرف والشقق الفندقية، وتوفير وسائل ترفيه متعددة، والاعتناء بشواطئ رملية خلّابة، وشقّ طُرقات داخلية كثيرة، وبناء مَراسٍ، ما يُدعى، «مارينا» لأصحاب اليخوت الفاخرة، وهَلُمَّ جَرَّاً. وذلك كله، طبعاً، في إطار تلبية تطلعات الـ«باو فاهو»، الأثرياء الجدد. «جنوبي البحر» «هينان Hainan»، بالصينية، تعني «جنوبي البحر». فهي تقع قبالة سواحل أقصى جنوب الصين، في «زاوية» بحر الصين القريبة أيضاً من شمال شرق فيتنام. وهي غير بعيدة عن شبه جزيرة «ليزهو»، التي لا يفصلها عنها سوى مضيق «كيونزهو» بعرضه البالغ نحو 20 كيلومتراً وحسب. ذلك القرب الجغرافي عن أراضي الصين الشاسعة يسهل الوصول إليها بالقارب. لكن، الـ25 مليون سائح ومصطاف وزائر الذين يتوافدون على الجزيرة سنوياً لا يأتون فقط بحراً، إنما جواً أيضاً، عبر مطارَي «هايكو»، عاصمة الجزيرة (في أقصى شمالها) و«سانيا»، ثانية أكبر مدنها (في أقصى جنوبها). وصحيح أن معظم ناشدي الاستجمام في هينان يأتون من أرجاء الصين الشاسعة، ما يُفسّر استضافة مطاري «هايكو» و«سانيا» عشرات الرحلات الداخلية يومياً. لكن، هناك أيضاً سيّاح من باقي بلدان شرقي آسيا، وبشكل خاص من اليابان وسنغافورة، وأيضاً من روسيا، التي يستهوي بعض «أثريائها الجدد»، بدورهم، تمضية أوقات «الفراغ» في هينان. لذا، فإنّ أكثر الوجْهات الدولية في مطاري «هايكو» و«سانيا» تخص طوكيو وموسكو وسنغافورة، ومدناً أخرى يابانية وروسية، إضافةً إلى هونغ كونغ ومكاو. وأخيراً، يجدر القول إنّ بعض الإعلاميين الغربيين ارْتَأوا تلقيب هينان بـ«دبي شرق آسيا»، في إشارة إلى بعض أوجه التشابُه التي تخص التطور الهائل بالغ السرعة الذي تشهده الجزيرة الصينية، والحركة العمرانية والمدنية الفريدة السائرة على قدم وساق فيها منذ عقود، على غِرار تطور الحاضرة الإماراتية المذهل.