النقش على النحاس وزخرفته، ووضع الرسوم والصور عليه، من الصناعات والحرف المصرية التي تزين جنبات شارع المعز لدين الله الفاطمي، والتي تجعله يتنفس تاريخاً، وعبقاً تراثياً جميلاً، يعيد زائريه لروعة التاريخ الإسلامي، الذي ازدهرت تحت ظلاله الفنون الإسلامية، وفي القلب منها فن النقش على النحاس. في أحضان هذا الشارع العريق ذي الطراز الإسلامي، يوجد أحد المحال التي تتميز بحرفة النقش على النحاس التي تعد من أبرز الفنون الشرقية والإسلامية والتي مازالت تحتفظ ببريقها الخاص، وهو «فضيات المعز»، الذي يمتلكه عاشق النحاس جمال شوشة، والذي زارته «زهرة الخليج» للوقوف على حال هذه الحرفة، والمشاكل التي تعانيها حالياً، بعد أن عاشت عصورها الذهبية من قبل. مهنة متوارثة في سياق حديثه عن حرفة النقش على النحاس يقول جمال شوشة: «يعود تاريخ هذه الزخرفة إلى بداية ازدهار الحضارة الإسلامية والعربية، حيث كانت ترى في تزيين مباني المساجد والمدارس والقصور والتي عرفت بالفنون الزخرفية»، لافتاً إلى أن هذه المهنة (النقش على النحاس) «توارثها الأبناء من آبائهم وأجدادهم، لتبدع أنامل الفنانين أجمل الفنون الزخرفية». ويضيف الحاج جمال: «أنا أعمل في هذه المهنة منذ أكثر من أربعين عاماً، ولقد ورثتها أباً عن جد. وعندما كنت صغيراً، ذهبت للورشة للتعلم على يد والدي حتى تعلمت المهنة وبدأت أعمل نقاش «روباسية». فهنا، نستخدم عشرة أقلام للنقش ومعنى «روباسية» هو تبريز القطعة، أي عمل صورة شخص وإبرازها على قطعة النحاس، وأيضاً يمكن كتابة تعبيرات دينية». ويشير إلى أن «هذه المهنة، كانت في الماضي، في عهد الدولة الإسلامية، محور صنع العملات والصواني أو الأواني النحاسية أو أطقم الشاي والمباخر القديمة والتي لا تزال من أهم المعروضات في سوق خان الخليلي». لكنه يلفت إلى أن «تطوراً وتغييراً كبيرين طرآ على هذه الحرفة، سواء فيما يتعلق بالأشكال أو الألوان أو طريقة الصناعة والطلاءات بالذهب والفضة، حيث تزايد الآن الحفر الكيميائي باستخدام الماكينات، وبدأنا نطور فيها وندخل أشكالاً أخرى، مثل: حافظة المصاحف والآيات واللوحات القرآنية والأطباق المزينة بالآيات أو الأشغال العربية، أو نقوم بابتكار أشكال جديدة للمباخر والساعات، بالإضافة إلى الأواني النحاسية وعلب الملبس والشوكولاتة والأطباق الفرعونية التي ينقش عليها الحرفي المناظر العديدة، مثل: الأهرام وأبو الهول وتوت عنخ آمون وعربة رمسيس الحربية وصيادي السمك والطيور». ويؤكد الحاج جمال أن «من أشهر الذين امتهنوا هذه المهنة الحاج أحمد درستاوي، والحاج عوض السروجي، وعزمي جاد، وغيرهم الكثيرون من محترفي النقش على النحاس والتي استمدوا أفكارهم من الأشكال والأماكن الأثرية والفرعونية، كتلك الموجودة على المعابد، والإسلامية كالزخارف الموجودة على جدران المساجد الفاطمية». وعن الفرق بين هذه الأيام وأيام زمان، يبين الحاج جمال أنه «في الماضي، كانت القطع النحاسية في كل بيت، مثل: الصواني والـ«تشت» والطبلية والفازات وغيرها من الأواني النحاسية المنقوشة ذات الاستخدامات المختلفة. وكانت كل هذه الأشياء تدخل ضمن جهاز العروس، بينما اليوم، لا يحدث ذلك لأسباب عديدة، منها: غلاء الخامات، حيث يصل سعر خام النحاس اليوم إلى 80 جنيهاً للكيلوغرام، بينما كان سعر الكيلوغرام في سبعينات القرن الماضي جنيهاً ونصف الجنيه، ما جعل الناس يعرضون عن شراء المنتجات النحاسية». ويضيف سبباً آخر وهو «غزو المشغولات الصينية المشابهة للنحاس والمصنعة من خامات الأنتيمونيا والصاج، التي يتم طلاؤها بلون أصفر فتعطي إيحاء للمشتري بأن هذا الشكل من النحاس، لكنه ليس من النحاس كما يراه البعض. والدليل على ذلك أنك إذا وضعت عليه قطعة من المغناطيس، سوف تنجذب له وهذا لا يحدث مع النحاس، كما أن هذه المشغولات لا تعيش كثيراً مثل النحاس». أنواع متعددة أما الحرفي الحاج شوشة، فيشير من جهته إلى أن النحاس المستخدم في هذه الصناعة ليس نوعاً واحداً، فهناك النحاس الأصفر والأبيض والأحمر، إلا أنه لم يعد هناك إلا نوعان فقط هما الأصفر والأحمر، ويكثر العمل بهما الآن، لكن النحاس الأحمر يعد الأغلى، نظراً إلى نقائه بعيداً عن الشوائب وسهولة الحفر عليه بدقة، لأنه طري». ويقول: «يأتي النحاس المستورد من الخارج في صدارة أنواع النحاس التي يتم استخدامها من قبل محترفي هذه المهنة، نظراً إلى خلوه من الشوائب، خاصة أن بعض الناس يجمعون النحاس القديم ويعيدون تصنيعه عن طريق تسخينه وصهره، إلا أنه يكون مليئاً بالشوائب. أما النحاس الأحمر المستورد، فهو مستخلص من باطن الأرض، وتتم «درفلته» وفرده عكس النحاس الأصفر. ولذلك، فإن أسعار النحاس تتزايد كثيراً، فقد ارتفع سعره من ثلاثة جنيهات إلى (17 جنيهاً) إلى أن وصل اليوم إلى 80 جنيهاً. ولذلك، فإن كل قطعة تختلف عن الأخرى في أسعارها». مراحل التصنيع وعن المراحل التي يتم بها تصنيع القطع الخاصة بالنقش على النحاس، يقول إسلام جمال الذي يعمل مع والده في «فضيات المعز»: «في البداية، نختار قطعة النحاس التي يراد صنعها وتشكيلها ثم نقوم بتقسيط قطعة النحاس، بمعنى مساواة جميع أجزائها بالمطرقة والسندان، ثم يتم مسحها وتطويقها جيداً، ثم يقوم الفنان (الرسام) بالرسم عليها بواسطة قلم رصاص». ويؤكد إسلام أنه «ليس من الضروري أن يكون من يعمل في النقش خطاطاً، فهناك الكثيرون من أصحاب الورش الذين يستعينون بخطاطين على درجة كبيرة من الاحتراف لكتابة أي جمل وخطوط وآيات مطلوب حفرها». ويضيف: «بعد ذلك، نبدأ عملية «تبكير الخانات» التي تم رسمها، بمعنى ابتكار كل خانة مثل الأخرى بالضبط، وذلك باستخدام «البرجل» والقلم ثم نستخدم قلم النقش «الحفر» ونقوم بالدق عليه بواسطة الشاكوش». ويلفت إلى «أن هناك العديد من الأقلام التي تستخدم في هذه الحرفة منها أقلام «الجوهارسة» وهي التي يتم بواسطتها نقش دوائر صغيرة فوق قطع النحاس، وهناك أيضاً أقلام «الزنبة» ومهمتها عمل النقاط المطلوبة في الرسم على النحاس. وهناك أيضاً أقلام «الترمبل» وهي التي تلزم لجعل الأرضية في النحاس شبيهة بالرمل. وهناك كذلك أقلام «المقطع» وهي التي تخصص للتفريغ». ويقول إسلام: «تتم عملية نقش النحاس أو زخرفته، بثلاث طرق: أولاها النقش أو الحفر، وتتم بأدوات يدوية من دون استخدام أي تقنية عالية عن طريق الإزميل والمطرقة الحديدية. وثانيتها هي طريقة الحفر البارز أو النقر، وتأتي في الدرجة الثانية من النقش من حيث الدقة. وثالثتها طريقة صب الفضة على النحاس وهي طريقة لا يعرف سرها إلا المهرة القلائل». ويشير إلى أن «عملية الحفر تتم عن طريق المرور على الشكل المرسوم أو الآيات المكتوبة على قطعة النحاس»، لافتاً إلى أنه «بعد الانتهاء من عملية الحفر تذهب قطعة النحاس للمخرطة لرسم الشكل الذي نريد إخراجه إذا كان دائرياً أو مستطيلاً، ثم تأتي مرحلة الذهاب للفرشاة للتلميع، وتتم مرحلة الطلاء بالألوان والطلاء بالذهب والفضة والبرونز، وربما تدخل في القطعة أربعة ألوان إلا أن هناك البعض يطلبها صفراء فقط». التطعيم بالفضة أما فيما يتعلق بالتطعيم بالفضة، فيكشف إسلام «أن ذلك يتم عن طريق عزل قطعة النحاس المراد تطعيمها بالفضة بمادة شمعية لا تتأثر بالأحماض، ثم يقوم النقاش بالرسم بواسطة أقلام النقش الفولاذية بمساعدة المطرقة والسندان. يتم بعدها تحديد الشكل المطلوب حتى يسمح بوصول الأحماض إلى داخل جسم المعدن فوق الرسم المصمم، وتغطيسه في حمض الأزوت الممدد، وتركه لمدة ثم نقوم بإخراج قطعة النحاس من الأحماض ونغسلها ويتم تنشيفها ثم بعد ذلك يتم تركيب خيوط الفضة في هذه الشقوق التي تم حفرها، وذلك عن طريق الطرق الخفيف عليه». الخوف من الاندثار ماذا عن عدد العاملين بهذه المهنة؟ رداً على سؤالنا، يقول الحاج جمال: «إن أعداد العاملين في هذه المهنة انخفضت كثيراً عما كانت عليه من قبل». ويضيف: «أنا مثلاً، كان يعمل معي فردان تركا المهنة، ليشتغل أحدهما عنصر أمن. والثاني يشتغل سائقاً، وذلك لأن المهن الأخرى عائدها المادي كبير، ذلك أن يومية العامل حالياً تتراوح بين 50 و60 جنيهاً لا أكثر». ويضيف: «أنا، كصاحب ورشة، لا أستطيع رفع هذا الأجر، لأن سعر النحاس الخام مرتفع، ولا أستطيع رفع سعر المنقوشات وذلك حتى يقبل الناس على الشراء. أما في الماضي، فقد كان العائد من المهنة كبيراً، عكس ما هو عليه الآن. حيث إن قطعة النحاس في الماضي كان ثمنها مئة جنيه وكنا نبيعها بمئة وخمسين، ولكننا اليوم، لا نستطيع رفع السعر نظراً إلى غلاء المادة الخام، ولذلك قل عدد العاملين بهذه المهنة حتى أصبحنا نخاف عليها من الاندثار». تعليم النقش ويشير الحاج جمال إلى أنه «من أجل المحافظة على هذه المهنة من الاندثار»، بدأ في إنشاء ورشة عمل لتدريب الراغبين في تعلم هذه المهنة نظرياً وعملياً. ويقول: «ستكون الدروس العملية هنا في الورشة»، لافتاً إلى أن «من يرغب في تعلم هذه المهنة في الوقت الحالي يتعلمها ليس من أجل استخدامها كمهنة تدر عليه عائداً مادياً، بل لأنه يحبها، وبالفعل بدأت في تدريب خمسة طلاب». من جهته، يقول حسين أنور أحد الراغبين في تعلم مهنة النقش على النحاس: «أنا أرغب في تعلم مهنة النقش على النحاس لأنها من المهن التي تتميز بالطابع الفني الإبداعي». ويضيف: «أريد تعلم هذه المهنة لأنني أحبها وليس لهدف الربح المادي، فأنا أعلم أن دخلها ضعيف، ولكن الرسم على النحاس بالنسبة إليّ فيه متعة كبيرة». مشاكل بالجملة وبالانتقال إلى أهم المشكلات التي تعوق صناعة النقش على النحاس، يقول إسلام جمال: «من أهم هذه المشكلات، تزايد أسعار النحاس بشكل كبير خلال هذه الفترة، ما أدى إلى هروب الكثيرين من أبناء هذه المهنة إلى مهن أخرى نظراً إلى قلة الربح». ويضيف: «لقد أدى ذلك إلى تغيير نشاط كثير من الورش الكبيرة التي كانت تعمل في النحاس، لتنتقل إلى العمل في الصاج، بالإضافة إلى قلة صبر أبناء الأجيال الجديدة الذين لا يعرفون قيمة ذلك الفن الرفيع، أضف إلى ذلك استيراد الكثيرين منتجات النحاس من الصين والذي يعتمد على الشكل الخارجي فقط، في حين أن ألوانه تمحى بعد فترة قصيرة من الزمن وجودته ضعيفة جداً، بالإضافة إلى أن رخص أسعارها يجعل الكثيرين يقبلون عليها». ويقول: «بالإضافة إلى كل ذلك، هناك بعض المصانع والورش التي تعتمد على الحفر الكيميائي للنحاس ما أضعف مهنة النقش اليدوي بصورة كبيرة وبات يهددها بالانقراض. إلا أنه بالرغم من ذلك تبقى هذه المهنة هي الأكثر عراقة وبراعة تدل على الفنون الإسلامية».