#مقالات رأي
لولوة المنصوري 5 فبراير 2022
تنداح ذاكرتي، خلال هذه الأيام الشتائية الحنونة، نحو ذلك الزائر الأبيض. في الشتاءات الأولى، كان الغيم الثقيل يتكتل على قمم جبال الحجر، في أقصى شمال إمارة رأس الخيمة؛ لينفض عنه الثلج المكثّف، فتدخل الحرارة في لحظة انهيار إلى الصفر وما دونه. الزائر الأبيض، الذي يحمل كسوة جبال الحجر، كان يلمع تحت الشمس بعد انسحاب الأفق الرمادي، مستثيراً فينا هيبة وحيرة شعرية، وانتعاشة براءة السؤال الوجودي القديم: «من أين أتى هذا الجبل؟ ثم أين يذهب خزّان الثلوج؟ هل يتسرّب إلى البحر ويتحول إلى غول مائيّ؟ أم أنه يذوب بين ثقوب ومسامات الصخور ليعود حياً من جديد، في شكل مارد مائي عملاق، يسكن أكبر نبع في القرية؟».
لن ننسى ذلك المشهد الذي نفتقده الآن. ومنذ سنوات، كان المشهد مُحرّضاً على بدء القيام برحلة تحدٍّ وتجاوز عتبة الصبر ومشقة الصعود نحو الإصغاء لحقيقتنا العلوية، والتوغل البحثيّ عن المنبع الخفيّ، نربط بين أغصان وضلوع أشجار المِيز تمائم الأمهات ونبوءاتهن، ونستثمر طلاسم الحكايات، التي تفيض عبر الزمن في الوديان والمضيق، منسدلة بين الريح، والأضرحة، والكهوف، ورائحة الأكفان، والشواهد الذائبة في الحجر.
من أعالي قمم جبال الحجر، إلى الشعاب المرجانية تحت مياه الخليج، تتشكّل زاوية النظر الفريدة، ونداءاتنا العابرة لموّال البحر، وأعشابه، وحركة أخشابه، نحاول التشابك مع غيوم الطرق المحتضنة نتوءاً جبلياً شاهقاً، ونغامر مع الرعاة بأغنامهم خلف مدرجات «الوعوب»، وحقول القمح والشعير بين الأخاديد، حيث تتلون خيالات العطش والعرق والتعب، وتسافر الرغبة المحمومة بالهروب عبر التفاصيل المتصلة والمنفصلة في هذا الوجود الزمني المبهم في الصخور، نحاول أن نقرأ تاريخنا في سجل صخري جرفته السيول، ونضع فرضيات الطوفان القديم الذي صدّع العالم، وهيّج حركة الصفائح من القاع العميق الهائج بالتيارات السوداء.
من دهشة الجبل يولدُ، تدريجياً، منظر أبجدي للخرافة البديعة للحجر. ومع مرور الأزمنة، يواصل الإنسان تكوّنه، محتمياً وحامياً وحالماً، مشكّلاً إرثاً عريقاً متفرداً ومتأصلاً في الوجود!