#مقالات رأي
د. شما محمد بن خالد آل نهيان 3 ديسمبر 2022
القراءة تبقى، دائماً، السلوك الإنساني الثابت والمتغير في الوقت نفسه؛ إذ تتمتع بخصوصية فريدة، قد لا نجدها في سلوكيات إنسانية أخرى.. فالقراءة آلية للحصول على المعرفة، تصبح في حياة الإنسان القارئ واحدة من المفردات الحياتية الثابتة، التي قد تصل إلى حد الممارسة الروتينية اليومية دون انقطاع أو عائق.. لكنها متغيرة في تفاصيلها فمن دون التنوع والتغيير بين المجالات المختلفة من المعارف لن تعطي القراءة النتيجة الكاملة منها، فقبل كل شيء لابد أن ندرك هدف القراءة كسلوك بشري، فهل هي قراءة من أجل القراءة، أم قراءة من أجل المعرفة؟
هي ليست مجرد غاية؛ فبعض الناس يحرصون عليها لذاتها، وليس لهدف آخر؛ فتصبح مجرد أداة لـ«الوجاهة» الاجتماعية فقط، ويتخلون عن هدفها الرئيسي والأهم، وهو أن تكون القراءة وسيلة للمعرفة، التي هي - بدَوْرها - وسيلة لبناء الأفكار والتطور والتراكم المعرفي، التي تصنع التغيير الحقيقي.
العلاقة بين القراءة والتطور الفكري والقيمي علاقة طردية وقوية؛ ففكر الإنسان ما هو إلا نتاج تراكم معرفي، مع تفاعل فلسفي ينتج عنه طرح العديد من التساؤلات والبحث عن إجاباتها، وفي عملية معقدة ينتج العقل أفكاراً جديدة، تمثل الرصيد الفكري المكون لشخصية الإنسان، وهذا الرصيد الفكري متغير ولا يتوقف عن النمو، طالما تغذى العقل على الكتب والأفكار الجديدة، وكثيراً ما تختلف رؤيتنا نحو كتاب ما، حينما نقرأه مرة ثانية بعد فترة من الزمن، وهذا إن دلَّ على شيء؛ فإنما يدلنا على مرونة عقلنا، وتطوره، وقدرته على استيعاب التراكم المعرفي، وبناء معارف وأفكار أكثر تطوراً مما كان عليه.
كما أن القراءة تعيد إلى الإنسان القارئ توازنه النفسي؛ فهو يجد فيها وسيلة للتخلص من ضغوطه النفسية، كما تمثل القراءة للبعض معادلاً للحياة، وأرضاً خصبة لتفريغ المشاعر المخبوءة في منطقة اللاوعي عنده؛ فقد يتفاعل الإنسان مع أحد أبطال رواية ما؛ لأنه وجد فيه شخصيته التي تمناها، وقد غاب عنه تحقيق ذلك، وقد يحدث إسقاط لأزمة ما، مرَّ بها على إحدى الروايات؛ فتخرج تلك المشاعر من مكمنها، وتطفو على السطح عبر قراءته؛ فتتعرض للوعي الذي يعمل على تبخرها، والتخلص من تأثيراتها السلبية التي قد تستمر وتنمو إن ظلت في منطقة اللاوعي تضغط عليها، وتعكس ملامح نفسية سلبية؛ فتأتي القراءة لتخلص منطقة اللاوعي منها، ويستعيد الإنسان توازنه المنشود في تلك الحالة.
القراءة ليست مجرد سلوك رفاهي نمارسه، بل سلوك بنيوي يعمل على التأثير المباشر وغير المباشر في ملامحنا وأفكارنا وشخصياتنا، ويمثل ركناً أساسياً في تكوين قيمنا وسلوكياتنا مع الحياة، ومع الآخرين.
ويبقى الجزء الأكثر أهمية من انعكاس القراءة على حياتنا، هو فهمنا لذاتنا؛ فكثيرون منا قد لا يعون أنفسهم وقدراتهم، ولا يفسرون سلوكياتهم إلا حينما ينفتح وعيهم على المعرفة، ويتعلمون من قراءاتهم قدرتهم على فهم ذواتهم، وتفكيك أفكارهم، وسلوكياتهم، وإعادة بناء تصورهم لأنفسهم.. وبمعرفة الذات تبدأ رحلة التغيير نحو الأفضل والمزيد من الإيجابية والتطور.
القراءة سلوك هو المبتدأ لوعي الإنسان، والخبر في بناء شخصيته.