#ثقافة وفنون
نجاة الظاهري الأحد 5 مايو 12:50
المهندسة مريم البلوشي، رئيس مفاوضي ملف تغير المناخ لقطاع الطيران، ونائب رئيس اللجنة المعنية بحماية البيئة في الطيران المدني، التابعة لمنظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو)، ومديرة البيئة بالهيئة العامة للطيران المدني، ليست مهندسة متميزة فحسب، بل هي كذلك من أهل الحَرْف، إذ تخط ما في نفسها على بياض ورقته، لتحيله إلى عوالم من الجمال، ولم تكتفِ بهذا، بل ولجت إلى فراديس الخط العربي، مقيمة ومقوّسةً لأحرفه، في لوحات تنضح بالإلهام والسلام والمحبة، كل هذا يشكّل شخصيتها الحالية، ويضعها في مقامها الرفيع بالساحة الأدبية والفنية.. «زهرة الخليج» التقت مريم البلوشي؛ لتحاورها في الحياة، والكتابة، وفن الخط العربي، ولتتعرف إليها، وإلى ما تمثله لها أقطابها الثلاثة، في الحوار التالي:
عندما يهدأ العالم.. يبدأ الإبداع
الصيف، حيث الإجازة والاسترخاء من ضغط العمل، كيف تقضيه مريم، وما أثره في مجالات إبداعها المختلفة؟
بالنسبة لي، الصيف - في مجمله - موسم عمل، فلا تخف وتيرة الضغوط، بل تزداد بسبب طبيعة عملي الدولي، وإجازاتي نادرة خلال الصيف، حيث إنني غير محبة للازدحام، حتى في السفر، فدائماً يكون موعد سفري بعد عودة أكثر الناس من إجازاتهم، فتكون الدنيا أقل ضوضاء و«رايقة»، ولأن النهار خلال فترة الصيف يكون طويلاً؛ فهو الوقت المناسب لي؛ لإنهاء أعمال فنية مهمة؛ لأنني أعتمد على الإضاءة الطبيعية من الشمس؛ لإنهاء لوحاتي. والصيف، كذلك، متنفسٌ جيد للكثير من النشاطات، إذ تكون خلاله نهاية الموسم الثقافي؛ فأستغله في التصميم، والعمل على لوحة أو لوحتين؛ إذا أسعفني الوقت، وضغط العمل.
أقطاب ثلاثة
بين الخط والكتابة الإبداعية والهندسة تسير خطى مريم في الحياة، فما الرابط بين هذه الأقطاب الثلاثة؟
هذه هي التوليفة الحقيقية اليوم لمريم، فقد عشت عمراً وأنا أفصل بين الشخصيات الثلاث: (المهندسة، والكاتبة، والفنانة)، وكنت أشعر بأنني أعزل كل واحدة منها عن الأخريين، كما كنت دائماً أحس بأن هناك شيئًا ينقصني في ترابط أعمالي الفنية؛ حتى توصلت إلى حالة المعرفة الصحيحة، وهي أنني لا أريد فقط أن أنفذ أعمالاً ذات قوالب بعيدة عني كمهندسة أو ككاتبة، فتوصلت إلى المعادلة التي أتعبتني وأراحتني في الوقت نفسه، ومفادها أنه يجب أن أنتج أعمالاً تتحدث عن رسائل وقصص تهمّ المتلقي، والمجتمع، وتعكس شخصيتي (story teller). كما أن البعد الهندسي كان - منذ البدايات - معكوساً في لوحاتي، وأصبح اليوم معززاً بشكل أكبر، إذ إن أكثر أعمالي في الفترة الأخيرة هي رسائل، وقصص، وتجارب واقعية، وأنا فخورة بذلك.
صورة المرأة الإماراتية
تقلدتِ مناصب كثيرة، ونلت جوائز عدة.. كيف يؤثر ذلك في شخصيتك وإنجازاتك، على المستويين الفردي، وكونك ابنة الإمارات؟
كل منصب، وتكريم، بصمة مهمة في حياتي؛ خاصة أنني لا أسعى إليها، بل تأتيني في حالة من «المفاجأة الجميلة»، وهذا توفيق من رب العالمين، فكلما حزتُ تقديراً أو منصباً، شعرت بالفخر والسعادة؛ إذ إنني لا أحمل اسم أبي فقط فيها، بل كذلك اسم الوطن، وفي هذا من المسؤولية والتعب ما يستحقه وطني.
التحديات مصنع الجودة
يقال: إن الإبداع وليد المعاناة.. هل ترينه كذلك بالفعل، أم بالإمكان أن يصبح المرء مبدعاً وهو في خضم إنجازاته، وهل التحديات مطلب حقيقي للإبداع؟
الإجابة تحمل الكلمتين: «نعم»، و«لا». نعم، المعاناة حينما يتم تحويلها إلى طاقة نفرغها في عمل إبداعي؛ تكون شفاء لنا، وقد مررت بذلك كثيراً، وكانت مواهبي هي قارب النجاة غالباً، فلم تأتِ إبداعاتٌ كثيرة من لحظات سعادة واستقرار وفرح، وإن كان الفرح أيضاً حافزاً؛ لأن الإنسان يبدع حال السعة والراحة والطمأنينة. بالنسبة لي، الخط متنفس، ويجب أن تكون حالتك النفسية جيدة، وأنت تهم بإنجاز لوحة؛ لأن الخط يعكس ما بداخلك، وتحمل اللوحة مشاعرك، وأحياناً هي التي تغير حالك، وهذا التغيير يأتي بعد مراتٍ من الاندماج والانغماس والتدريب؛ لتكون مهيأ للعمل الحقيقي. أما الكتابة، فهي أكبر وسيلة لتفريغ الألم عندي، فهي الصديق الذي يسمع، وهي الحال التي أنتفض فيها وأصرخ بكل ما فيَّ، من دون خوف أو خجل. إن التحديات تصنع منا نسخاً جديدةً، وتجعلنا نرسم حياتنا بمختلف الزوايا، فالحياة ليست خطًا متوازيًا مستقيمًا؛ لذا يجب أن ندخل هذه المتاهات، وتلك المطبات؛ حتى نُخرج إلى العالم نسخنا الأفضل.
رحلة فنية
متى بدأت رحلتك مع الخط العربي، وما تأثير هذا الفن فيكِ؟
بعد تخرجي في الجامعة، وحصولي على درجة البكالوريوس في الهندسة؛ التحقت عام 2003 بمعهد الخط العربي والزخرفة في الشارقة، لمدة 3 أشهر؛ لأراجع ما تعلمته، ولأكمل التتلمذ على أيدي أساتذة خطاطين معروفين في فن الخط العربي، ومنهم: الأستاذ علي ندا، والأستاذ عدنان الشريفي، والأستاذ محمد النوري، وانقطعت لاحقًا تمامًا عنه، لمدة لا تقل عن ست سنوات، اعتقدت خلالها أن هذه الهواية انتهت، لكن شغفها لم ينتهِ، كنت أزور المعارض كلما سنحت لي الفرصة، وأشاهد اللوحات، وأحس بداخلي بأن هناك شيئًا أفتقده، أخذه مني العمل والدراسة، ثم عدت عام 2008، بعد إنهائي رسالة الماجستير؛ لممارسة هذه الهواية بتمرس، وبوعد لنفسي بألا أتركها. استعدت ثقتي وتمكني من الحَرْف، وبدأت تصميم لوحاتي وتنفيذها، وأُعدّ اليوم من أقدم الخطاطات الإماراتيات، اللاتي مارسن هذا الفن.
وقد علمني فن الخط أن الحياة، بمسؤولياتها وضغوطاتها، لا تحتاج إلا إلى متنفس؛ لأجد أنا هذا المتنفس في ممارسته، فيمنحني الراحة والطمأنينة، كما علمني الصبر والتحمل والتركيز، وأصبح الانغماس في لوحة يمنحني إحساساً روحانياً، والفترات التي أقضيها في محادثة أحباري وقصباتي، لتترجم لوحة ما، من أجمل فترات الهدوء التي أعيشها مع نفسي، منعزلة عن كل ضغوطات الحياة اليومية، فطبيعة عملي تتطلب الكثير من الجهد النفسي والذهني، بالإضافة إلى كثرة أسفاري في السنوات الأخيرة، ورغم ذلك عندما أمسك بالقصبة وأبدأ كتابة حروفي، أستعيد طاقتي ونشاطي تلقائيًا بها. كذلك، علمني الخط كيف أتأمل الأمور، وكيف أقنع نفسي بأن الصعوبات تحتاج إلى فترات هدوء واسترخاء لحلها، فرغم ظروف العمل والتعب، أنا إنسانة تحتاج إلى وقت لنفسها، ولإخراج ما وهبها الخالق من إبداع، يتأصل ويترجم ألواناً وخطوطاً، فالحياة قصة جميلة يطلق فيها المرء ما لديه من خيال وإبداع، ويعيش متعة حقيقية، فيسافر مع ما يحب، ويحمل ما يحب أينما ذهب، ليصمم، ويرسم، ويعيش خيالاً خاصًّا.
العائلة.. شاطئ الأمان
حدثينا عن العائلة، ودورها في وصول مريم إلى شواطئ إبداعها بأمان، والوقوف وراء إنجازاتها الكثيرة!
العائلة دائمًا ستبقى سندي الأول، فهي سبب سعيي الدائم إلى التغيير. إن ما مررت به لم يغير حياتي فقط، بل حياة أسرتي كذلك؛ كوني الابنة الكبرى المسؤولة، التي تعتني بالكل، وتحديدًا الأخوة والأخوات. أفراد عائلتي كانوا - في البداية - متحفظين تجاه مسألة عملي، والكثير من الأمور التي أقوم بها، لكنهم عندما أدركوا السبب وراء كل ذلك، أصبحوا أول المساندين والداعمين؛ فالعائلة شاطئ الأمان، وقد كانت دعوات جدتي (أمي كلثوم)، رحمها الله، دائماً هي أول ما أبدأ به مهمة عمل أو سفر وأنهيها، وفي أحيان كثيرة كنت أجالسها؛ لأفكر، وأصمم.