#منوعات
تغريد محمود الأحد 7 سبتمبر 11:00
في كل خريف، تنسلّ أوراق الشجر كما تنسلّ الذكريات من دفاتر الزمن؛ تتهادى الألوان من خضرة نضرة إلى طيف من الأصفر والنحاسي والقرمزي، كأن الطبيعة تعيد كتابة قصيدتها الأخيرة قبل صمت الشتاء. ومنذ فجر الفن، استوقف هذا الفصل بروعته وفرادته أنظار الرسامين حول العالم، ليغدو الخريف أكثر من مجرد مشهد بصري؛ إنه استعارة كونية للعبور، والذبول، والتأمل، بل والولادة الخفية التي تكمن في الموت الرمزي.
تنوّعت تمثُلات الخريف في اللوحات العالمية، كاشفةً عن غنى التفاعل بين الفنان وهذا الفصل. ففي المدارس الكلاسيكية، يظهر كفصل الحصاد، حيث تتجلى دورة الحياة في صورتها الأكمل: النضج، والحصاد، ثم التلاشي، بألوان رمزية: الأصفر للخصوبة، والذهبي للوفرة، والبني للانحسار. أما في الفن الحديث والمعاصر، فقد تحوّل من كونه مشهداً خارجياً إلى تجربة داخلية؛ إذ لم تعد الورقة المتساقطة هي المهمة، بل ما تولّده هذه الصورة من صدى شعوري عميق وانعكاس باطني. ألوان الخريف باتت ضربات مشحونة على القماش، والتكوين أصبح مرآة للذات لا للطبيعة فقط. وبين من رآه وداعاً مترفاً، أو ميلاداً متخفياً، نستعرض أبرز اللوحات التي تناولت الخريف عبر عصور الفن:
-
Autumn Leaves, John Everett Millais,1855
جون إيفريت ميليه (1829 – 1896):
رسام إنجليزي، وأحد مؤسسي «حركة ما قبل الرفائيلية»، وقد اشتهر بدقته الأكاديمية، وحسّه العاطفي، وترك إرثاً فنياً بارزاً في العصر الفيكتوري. وفي لوحته «أوراق الخريف»، تقف فتيات صغيرات تحت سماء رمادية، يحرقن الأوراق الجافة في رثاء للطفولة والبراءة. ويلفّ المشهدَ ضوءٌ ذهبي مائل إلى البني، كأنّه يهمس بزوال الجمال، وعُمر الربيع. إن العناية البالغة في رسم كل ورقة، وتعابير الوجوه، تمنح العمل شاعرية متقنة. كما يتسم التكوين بتوازن رصين بين الحركة والسكون، حيث تسود الألوان البنية والذهبية، في دلالة على التحول والانتهاء. الخريف، هنا، ليس مجرد فصل، بل استعارة بصرية لمرور الزمن.
-
الخريف يتنفس في لوحات عالمية
بيتر برويغل الأكبر (1525 – 1569):
رسام فلمنكي بارز، عُرف بلوحاته التي تجسد مشاهد الحياة الريفية، والمناظر الطبيعية، بأسلوب واقعي نابض بالحياة، وقد جمع - في أعماله - بين السخرية والعمق الإنساني؛ ما جعله من أعمدة فن القرن السادس عشر بأوروبا. وفي هذه اللوحة، يصور مشهد الحصاد في أوج الخريف، كأنه احتفال جماعي بالحياة والطبيعة. والألوان الترابية والذهبية تُظهر النضج والوفرة، مع اهتمام بالتفاصيل اليومية كرمز لدورة الحياة. كما أن البنية الأفقية للوحة تُعزز الإحساس بالامتداد الزمني والمكاني للريف الأوروبي، في فصل الخريف.
-
الخريف يتنفس في لوحات عالمية
كلود مونيه (1840 – 1926):
رسام فرنسي، وأحد أبرز مؤسسي «المدرسة الانطباعية». في هذه اللوحة، يوظّف الضوء والظل؛ لمنح إحساس بالهدوء العميق، والانغماس في صمت الطبيعة، حيث تنعكس الأشجار على صفحة النهر بانسيابية تُجسّد مرور الزمن. والألوان الدافئة كالأصفر والبرتقالي والذهبي تعبّر عن نضج الطبيعة، وانطفائها التدريجي، في مقابل درجات الأزرق، التي توحي بالبرودة القادمة. ويرمز هذا التلاقي بين دفء الأشجار، وبرودة الماء، إلى لحظة انتقالية بين الحياة والانحسار.
-
الخريف يتنفس في لوحات عالمية
نيكولا بوسان (1594 – 1665):
رسام فرنسي بارز في القرن السابع عشر، اشتهر بأسلوبه الكلاسيكي، الذي جمع بين الانضباط الفني، والموضوعات التاريخية، والأسطورية. تتجلى، هنا، رمزية الخريف من خلال مشهد جمع العنب، حيث يربط الفنان بين غنى الموسم، ونهايات الدورات الطبيعية. ويستخدم بوسان ألواناً ترابية دافئة؛ لتمجيد الوفرة، بينما يوظف الظلال؛ لتعزيز عمق المشهد وواقعيته. ويحمل الضوء في اللوحة دلالة رمزية على النعمة الإلهية، والوفاء بالوعد؛ ما يجعل الخريف فصل الحصاد، والامتنان.
-
الخريف يتنفس في لوحات عالمية
إسحاق ليفيتان (1860 – 1900):
رسام روسي متميز، اشتهر بلوحاته، التي تجسد جمال الطبيعة بأسلوب شاعري، يمزج الواقعية بالرومانسية. وفي هذه اللوحة، يحوّل الغابة الروسية إلى مشهد متلألئ بالأصفر والذهبي، يرمز إلى السكينة قبل الشتاء. ويرتكز التكوين على انسياب النهر وسط الطبيعة كعنصر يوحّد الزمان والمكان؛ ليجعل من الخريف قصيدة ريفية هادئة، تتغنى بالانسجام قبل العاصفة.
-
الخريف يتنفس في لوحات عالمية
فينسنت فان غوخ (1853 – 1890):
رسام هولندي عبقري، وأحد أبرز رواد الفن الحديث، عُرف بألوانه الجريئة، وضربات فرشاته الانفعالية. ورغم معاناته النفسية، وحياته القصيرة، إلا أنه ترك إرثاً فنياً خالداً، أثرى «التعبيرية، والانطبــــاعية». وتُظهر لوحته ممراً، تصطـــف فيه أشجار الحور، بألوان خريفية متوهجة، وينفتح على نقطة ضوء بعيدة. ويشير التكوين الطولي للأشجار إلى العبور، ولحظة انتقال، حيث يسير الناظر في درب من التحول الداخلي. الخريف، هنا، فصل بين عالمين: بين الضوء والظل، وبين الأمل والفَقْد.