أرمينيا.. دفء يذوب في بياض الجبال
#سياحة وسفر
لاما عزت اليوم
لا تبدأ الحكاية بالوجهة، بل بالإحساس الأول؛ حين تلامس أنفاسك هواءً، يختلط فيه البرد بالعطر الخشبي القادم من الجبال. تلك هي أرمينيا في ديسمبر.. بلدٌ لا يشبه غيره، يمتزج فيه الصقيع بالعاطفة، وتتحول الطبيعة إلى معزوفة هادئة من الثلج والنور. كل طريق فيها يحمل وعداً بالدهشة، وكل زاوية تحتفظ بسرٍّ صغيرٍ من الحنين، كأنها تذكّرك بأن الجمال لا يحتاج إلى دفء كي يُحب، بل إلى قلب يعرف كيف يتأمل.. سماء تتنفس ثلجاً، وجبال ترتدي صمتاً، وقرى صغيرة تشتعل بالمدافئ والحكايات.. بلاد القوقاز، هذه، تقدم إلى الزائر شتاءً باردًا في مظهره، دافئًا في جوهره؛ فهي وجهة مثالية لعطلة رومانسية، نكتشف فيها ذواتنا وسط الصمت الثلجي.
-
الطيران الشراعي.
حكاية تبدأ من قمم الثلوج
الطريق إلى «تساغكادزور» أشبه برحلةٍ إلى الحلم، فتنساب السيارات عبر طرقٍ مكسوّة بالثلوج، فيما تلوح القمم من بعيد كأنها دعوة من السماء. البلدة التي تُعرف بـ«وادي الزهور» تتحول، شتاءً، إلى عالمٍ أبيض من السحر، حيث تتراقص البلورات على ضوء الشمس، وتهمس الريح بحكاياتٍ قديمة عن المسافرين والعابرين. وعلى منحدرات جبل «تيغينيس»، تبدأ المغامرات بين التزلج والانزلاق والطيران الشراعي فوق خزان «آزات» المتجمد، حيث تبدو الأرض كأنها مرآة تُعيد إليك دهشتك الأولى. أما من يفضّلون الهدوء، فتكفيهم لحظة صعودٍ على مصعد التزلج، ومشهدٌ يطلّ على غاباتٍ صامتة، وبياضٍ لا نهاية له، مع فنجان قهوةٍ يدفئ اليد والروح معاً. هنا، تتحول الممرات الخضراء إلى منحدرات بيضاء، تمتد بلا نهاية، حيث يعيش الزوار تجربة تزلج تجمع بين المغامرة والتأمل.
ويقدم منتجع «مايلر الجبلي»، الحديث، القريب من العاصمة يريفان، مشهدًا آخر للشتاء؛ فيجعله عصرياً ومفعماً بالطاقة، وتكسوه القمم المذهلة لجبل «تيغينيس». هنا، لا شيء يُضاهي لحظة الصعود في «التلفريك» نحو القمم، فيما يتساقط الصقيع على الوجوه كقبلاتٍ من هواء نقيّ. وسواء كنت محترفًا أو مبتدئًا، ستجد في أرمينيا متعة الانطلاق فوق الجليد، حيث يتكفل المدربون المحليون بتعليم الزوار فنون التزلج بخفةٍ وابتسامة. أما من يفضلون المغامرات الهادئة، فيكفيهم ركوب المصعد الجبلي، واحتساء كوب من «الشوكولاتة الساخنة» على ارتفاعٍ يلامس الغيوم، بينما يمتد السكون الأبيض تحت الأقدام كعالمٍ من ضوء.
-
منتجع «مايلر الجبلي».
يريفان.. مدينة تضيء رغم البرد
عاصمة أرمينيا لا تعرف السكون، حتى حين يكسوها الثلج؛ فتتوهج بالحياة من «ساحة الجمهورية»، التي تزداد بهجة تحت أضواء الميلاد، إلى المقاهي التي تفيض بموسيقى «الدودوك» العذبة. ورائحــة القهــــوة المحمصة تملأ الشوارع، والمارة يبادلونك الابتسامات كأنهم يعرفونك منذ زمن. ويبدو جبل «أرارات» من بعيد كحارسٍ أبيض يطلّ على المدينة. بينما يحتضن متحف «كاسكيد» الفن والثلج في مشهدٍ واحد. هناك، بين الدرجات الرخامية، والنصب الحديثة، يُدرك الزائر أن الجمال في يريفان لا يحتاج إلى إعلان، بل إلى تأمل صامت، يليق بشتاء ناضج.
-
ينابيع «جيرموك» الحارة.
سكون الينابيع.. ودفء البخار
بعيداً عن صخب المغامرة، تناديك «جيرموك»، المدينة التي تبوح بالماء، وبلغة البخار. تشتهر المدينة بينابيعها المعدنية، التي تتدفق وسط الجليد كمعجزةٍ حية؛ بمياه دافئة تُعيد إلى الجسد توازنه، وإلى الروح صفاءها. فكل حمامٍ، هنا، يعد لقاءً بين النار والثلج، وكل لحظة استرخاء تبدو كحوارٍ طويل مع الجبل. وفي ليالٍ صافية، حين ينعكس ضوء النجوم على البخار المتصاعد من الحمامات المفتوحة، يصبح المشهد كحلمٍ لا يُصدق. ومن «هانكافان»، القرية الصغيرة، التي تُقيم تحت جناح الجبال، يأتيك دفءٌ آخر: جلسات تدليك بالأعشاب البرية، وأصوات موسيقى ناعمة تشبه خفقان القلب؛ فهو ترفٌ يشبه الصمت.. لا يُرى، لكنه يُحسُّ.
دروبٌ تُروى بخطواتٍ بطيئة
في «فانادزور»، تتحوّل الطرق الجبلية إلى مساراتٍ ترويها الأقدام. فالمشي، هنا، ليس رياضةً، بل طقس من التأمل؛ حيث الهواء نقيّ كأول تنهيدة، والثلج يتساقط بخفةٍ كأنه يحمي الأرض ولا يغطيها. وعند الوصول إلى قلعة «سمباتابير»، القديمة كالحكاية نفسها، تشعر بأن التاريخ لم يُكتب بالحبر، بل بالثلج. فكل حجرٍ في هذه القلعة يروي قصة حارسٍ أو عاشقٍ انتظر طويلاً. وإذا رغبتم في تجربة أكثر راحة، فيمكن ارتداء الأحذية الثلجية، والسير عبر الممرات البيضاء، حيث لا صوت سوى أنفاس الطبيعة.
-
أرمينيا.. دفء يذوب في بياض الجبال
بيوت تنام على ضوء المواقد
العودة، مساءً، إلى القرى الصغيرة تشبه العودة إلى زمنٍ بطيء، يُقاس بالدفء. فتلك البيوت الحجرية المغطاة بالثلوج ليست مجرد أماكن للإقامة، بل حصنٌ للعابرين. فداخلها، تتراقص ألسنة النار في المدفأة، وتنتشر رائحة الشاي والأعشاب والخبز الطازج، بينما النافذة تطلّ على غابةٍ ساكنة، تتنفس تحت عبايةٍ من الثلج.
-
طبق «الخاش»
مذاقات تدفئ الجسد، والذاكرة
كل ما في أرمينيا صادق، حتى مطبخها. فالأطباق، هنا، تُطهى بحبٍّ يشبه دفء الأمهات، وتُقدَّم كقصصٍ من الماضي. ابدأ يومك بطبق «الخاش»، الشوربة الأرمينية التي تُقدَّم مع الخبز والبهارات الثقيلة، ثم تذوّق «التولما» أوراق العنب المحشوة باللحم والأرز والتوابل. وفي الأمسيات، تُقدَّم فطيرة «الغاتا»، الحلوى التي تتفتت بسلاسةٍ، فتترك في القلب أثر سعادةٍ صغيراً. ولأن الشتاء يطلب دفئاً أكثر، تأتي الهريسة الكريمية وحساء التانابور باللبن والعشب البري؛ ليكتمل المشهد. إن كل طبقٍ، هنا، يُذكّرك بأن الطعام في أرمينيا ليس عادةً، بل احتفالٌ بالحياة
بعد الشتاء
تترك أرمينيا في شتائها أثرًا باقياً.. فهناك ما هو أبعد من المناظر الثلجية، والمهرجانات الموسمية؛ إنه دفء إنساني نادر؛ فكل ابتسامةٍ أرمينية تشبه شعلة، وكل لحظة صمتٍ أمام الجبال تذكيرٌ بأن الجمال الحقيقي بسيط.. وصادق.. وعميق. تغادرها، لكنك لا تتركها خلفك، بل تبقى معلقة في القلب، كوميضٍ من ذكرياتٍ بيضاء، وصوت موقدٍ يشتعل في الذاكرة؛ كلما عاد البرد!