#تكنولوجيا
ياسمين العطار اليوم
في أحد الصفوف بمدرسة على أطراف المدن العربية، رفعت طفلة يدها؛ لتقرأ بصوت واثق، لأول مرة. كانت الكلمات بـ«العربية»، واضحة ومليئة بالحياة. تلك اللحظة الصغيرة، التي قد تمر على كثيرين مرور الكرام، تصفها راما كيالي بأنها «السبب، الذي يجعل كل جهد يستحق العناء». من هنا تبدأ الحكاية.. حكاية مخرجة أفلام وثائقية، تحولت إلى رائدة في التعليم الإلكتروني، وجعلت منصتها «المفكرون الصغار» جسراً يصل الأطفال العرب بلغتهم، ويزرع فيهم حب القراءة، حتى في أكثر البيئات تحدياً؛ لتستحق نيل جائزة كارتييه للمبادرة النسائية – فئة الأثر في عام 2025.. في هذا الحوار، نقترب أكثر من مسيرتها؛ لنعرف كيف تحول الشغف الشخصي إلى منصة تعليمية رائدة، تعزز حضور «لغة الضاد» في قلوب الأطفال، وعقولهم:
-
راما كيالي: «المفكرون الصغار» جسر يصل الأطفال العرب بلغتهم
من صناعة الأفلام، إلى إنشاء «المفكرون الصغار».. حدثينا عن تلك الرحلة!
بدأت رحلتي من صناعة الأفلام الوثائقية، مؤمنة بأن القصة الصادقة قادرة على إحداث تغيير حقيقي. مع الوقت، أدركت أن أطفالنا يفتقرون إلى محتوى عربي أصيل وممتع، يُحببهم في لغتهم. بعد تجربة شخصية مع ابني، وقيام شريكتي لمياء طباع بالتجربة ذاتها، أطلقنا فكرة إحياء الأغاني والقصص التي نشأنا عليها، وبدأنا بإنتاج محتوى تعليمي للأطفال. النجاح غير المتوقع، لأول عرض، شجعنا على التوسع، من أقراص (DVD) إلى المحتوى الرقمي، في وقت لم يكن فيه التعليم الإلكتروني العربي قد انتشر بَعْدُ. لاحقاً، اكتشفنا أن المشكلة لا تخص الأطفال فقط، بل تمتد إلى المعلمات، اللاتي يفتقرن إلى أدوات تعليمية جذابة؛ فحولنا تركيزنا إلى المدارس. وبدعم من مبادرات تعليمية، حققنا نتائج مشجعة في المملكة الأردنية، ثم توسعنا إلى دولة الإمارات. في 2018، جمعنا أكثر من مليونَيْ دولار؛ استثماراً لتطوير أدوات تعليمية تفاعلية، هدفها إعادة ربط الأطفال العرب بلغتهم، وجعل تعلمها تجربة حياة.
جودة تربوية
ما سبلكم لصناعة محتوى عربي، ينافس الأجنبي؟
نحرص على أن يكون المحتوى ممتعاً، ومرتبطاً بواقع الطفل العربي، وذا جودة تربوية عالية. كما نعمل مع كتّاب ورسامين وتربويين من بيئتنا العربية، ونستخدم عناصر التلعيب (Gamification)، والمكافآت، والتفاعل المستمر؛ لتحفيز الأطفال على التعلم. والأهم أن القصص التي نقدمها تحاكي عالم الطفل، وتلامس خياله.
كيف تقيسين «الأثر» الحقيقي لما تقدمونه؟
الأثر الحقيقي - بالنسبة لي - لا يُقاس فقط بالأرقام، فرغم أننا فخورون بكوننا أصبحنا فريقاً، يضم أكثر من 65 شخصاً في 4 دول، إلا أننا نعمل، معاً، بشغف؛ لنخدم أكثر من نصف مليون طالب في 800 مدرسة حكومية وخاصة في 11 دولة. لكن الأثر الأعمق، هو عندما أسمع من معلمة أن طلابها بدؤوا يقرؤون بثقة لأول مرة، أو حين يخبرني أحد الأهالي بأن القراءة أصبحت جزءاً من يومياتهم بفضل منصتنا. هذه القصص الفردية هي الدافع الحقيقي.
إلى أي مدى توازنين بين رسالة اجتماعية، ومشروع ريادي يتطلب الاستدامة المالية؟
إنها معادلة دقيقة، لكنها ممكنة، لقد وضعنا نموذجاً يضمن الاستدامة المالية، دون أن نحيد عن رسالتنا الأساسية. فالعوائد التي نحققها تتيح لنا تطوير المنصة باستمرار، والوصول إلى شرائح جديدة، بل وتمويل مبادرات مجتمعية، مثل توفير المحتوى التعليمي للأطفال في المناطق المتأثرة بالنزاعات، دون الحاجة إلى الإنترنت.
التحديات تستحق
هل هناك موقف أثر فيكِ، وجعلكِ تشعرين بأن مشروعكِ يستحق كل هذا العناء؟
نعم، ففي مدرسة بالأردن، تضم طلاباً لاجئين، أخبرتني معلمة بأن طلابها، الذين لم يمتلكوا - في السابق - أي كتاب في بيوتهم، أصبحوا يقرؤون بطلاقة؛ بفضل منصتنا، وأن أحد الطلاب بدأ يعلم إخوته في المنزل. هذا النوع من الأثر، الذي يتسلسل من الصف إلى الأسرة، يمنحني اليقين بأن كل التحديات تستحق. وفي مدرسة حكومية أخرى، كان الطلاب بالكاد يقرؤون كتاباً واحداً في السنة من مكتبة المدرسة. أما بعد استخدام منصتنا؛ فأصبح معدل قراءة الطالب الواحد يتجاوز الـ100 كتاب سنوياً. هذا التحول ليس مجرد رقم، إنه انعكاس لما يمكن أن يحدث؛ عندما يتوفر للأطفال محتوى يُشبههم، ويجذب انتباههم.
-
راما كيالي: «المفكرون الصغار» جسر يصل الأطفال العرب بلغتهم
كيف استقبلتِ خبر فوزكِ بـ«جائزة كارتييه» - فئة الأثر؟
شعرتُ بامتنان وفخر كبيرين؛ فقد كان الفوز بجائزة كارتييه للمبادرة النسائية – فئة الأثر عام 2025، لحظة مميزة لي، لكنها أيضاً مسؤولية إضافية. بالنسبة لي، لم يكن التكريم شخصياً بقدر ما كان تسليطاً للضوء على قضية تعليم اللغة العربية، وفتح أبواب جديدة لإيصال رسالتنا.
نسبة النساء في فريقكِ مرتفعة.. هل هذا مقصود؟
إنه مزيج من التوجه الطبيعي، والاختيار الواعي؛ كوني امرأة مؤسِّسة، كنت أدرك أهمية توفير بيئة عمل داعمة للنساء، خاصة الأمهات. هذا التوجه جذب كفاءات نسائية مميزة، لكنه أيضاً كان انعكاساً لرؤيتنا في تمكين المرأة، وتعزيز دورها في الابتكار والقيادة.
كيف وفقتِ بين متطلبات الأمومة، ومسؤوليات ريادة الأعمال؟
التوازن ليس مثالياً على الدوام، لكن وجود دعم حقيقي من عائلتي وفريقي في العمل ساعدني في ذلك، بالإضافة إلى المرونة في إدارة وقتي. والأهم أنني تعلمت أنني لست مضطرة أن أكون مثالية في كل الأدوار طوال الوقت.
لو طلبتُ منكِ تلخيص رحلتكِ في جملة يقولها طفل استفاد من مشروعكِ.. ماذا ستتمنين أن يقول؟
أنا أقرأ.. إذن أنا أحلم، وأنا قادر على التغيير.
ما حلمكِ القادم؟
أن نصل إلى ملايين الأطفال العرب في كل مكان، وأن نُمكنهم من أن يقرؤوا، ويفهموا، ويعبروا عن أنفسهم، بلغتهم الأم. كما أطمح إلى بناء جيل يعتز بهويته، ويمتلك أدوات المستقبل، ويكون قارئاً، ومفكراً، ومُلهماً!