#منوعات
كارمن العسيلي اليوم
في الحياة، ليست كل الحكايات مرسومة بخطة دقيقة، فأحياناً تكتبها الصدفة، وتمنح الشغف فرصةً ليكمل الطريق.. هكذا كانت حكاية عبير زيد الشحي، التي حلمت، يوماً، أن تكون إعلامية ومخرجة تلفزيونية؛ لتصبح لاحقاً أول مترجمة لغة إشارة إماراتية معتمدة، ورئيسة قسم المراكز الحكومية لأصحاب الهمم في وزارة الأسرة.
-
كلمة حيّاكم بلغة الإشارة
كانت البداية في طفولتها، حيث اعتادت أن تراقب جاراً أصم، وهو يتحاور مع صاحب البقالة بإشارات لم تكن تفهمها، لكنها كانت تُدهشها. لم تكن تدرك، آنذاك، أن تلك اللغة الصامتة ستكون، لاحقاً، صوتها الذي تصل به إلى قلوب الآلاف. وكأي شابة طموحة، حلمت عبير بدراسة «الإعلام»، لكنها نسيت بطاقتها الجامعية يوم المقابلة. شعرت الشحي بأن حلمها يتلاشى، حتى دخلت صدفة مهرجاناً لأصحاب الهمم في اليوم نفسه. وهناك شاهدت مسرحية، تؤديها مجموعة من الصم. كان العرض صامتاً، لكن في داخلها، كان الصوت مدوّياً. تذكرت جارها، وإشاراته؛ ووجدت نفسها تتقدّم نحو المعلمات؛ لتسأل، بفضول يضيء عينَيْها: «ما هذه اللغة.. وكيف أتعلمها؟».. في تلك اللحظة بدأت رحلتها!
إلى الطريق المهني
بإصرارها، التحقت عبير بكلية التربية الخاصة، رغم أن فرص قبولها لم تكن مضمونة أيضاً، لكن أحد أعضاء هيئة التدريس قال لها بثقة: «أرى فيك شيئاً للمستقبل»، وفتح لها الباب. بدأت رحلتها مع تعلم لغة الإشارة على يد مجتمع الصم نفسه، خلال التدريب الميداني؛ فوجدت فيهم معلمين مميزين، ووجدوا فيها متعلّمة سريعة الالتقاط. بعد تخرجها، التحقت عبير بالعمل في مركز الفجيرة لأصحاب الهمم، ورفضت أن يبقى الصم في مراكز مغلقة؛ وسعت لدمجهم في المدارس العامة، وكان المركز الذي تعمل فيه، هو الذي أطلق تجربة دمج الصم في التعليم العام على مستوى الدولة أولاً؛ فنجحت التجربة، وتم تعميمها على الإمارات كافة.
-
كلمة مجلة بلغة الإشارة
صوت إماراتي بلغة الإشارة
خلال مسيرتها المهنية، لاحظت عبير النقص في عدد مترجمي لغة الإشارة في الإمارات، فخاضت تحدي التأهيل بدورات متخصصة مع خبراء من الكويت وقطر، وفرتهم لها الوزارة، واجتازت كل المستويات، حتى حصلت على شهادة مترجم فوري معتمد؛ لتكون الأولى في الدولة. وقد كرمها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله؛ تقديراً لإنجازها غير المسبوق. تقول عبير، بنبرة مملوءة بالتأمل: «في أوقات كثيرة؛ شعرت بالإحباط، لكنني كنت أقول لنفسي: إذا توقفت، فلن يكون هناك مترجمون إماراتيون آخرون. وإذا واصلت، فسأنير الطريق لمن بعدي». وتضيف مبتسمة، وشعور بالفخر يتملكها: «لدينا، اليوم، أكثر من 49 مترجماً معتمداً، وآخرون في طريقهم إلى الاعتماد».
معجم.. وهوية بصرية للصم
تشغل عبير زيد الشحي، اليوم، منصب رئيس قسم المراكز الحكومية لأصحاب الهمم بوزارة الأسرة، وتشرف - من خلاله - على ستة مراكز، موزّعة في إمارات الدولة، تقودها برؤية إنسانية تجمع بين الرعاية والتطوير والتمكين. لكنَّ دورها لا يتوقف عند الإدارة، بل يمتدّ إلى صناعة التغيير الحقيقي في المجتمع. عام 2018، كانت عبير جزءاً من فريق عمل وطني، جمع تحت مظلته: مؤسسة زايد العليا، ووزارة تنمية المجتمع، وهيئة تنمية المجتمع بدبي، ومدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، وأسهم في إطلاق المعجم الإشاري الإماراتي الموحّد. وبمجهود جماعي، بدأ المعجم بأكثر من ألف إشارة، ويجري العمل، حالياً، لتوسيع قاعدة مفرداته إلى ما يفوق الـ5000 إشارة، تتضمن كلمات من الموروث المحلي، مثل: «البرقع»، و«المالح»، و«الثريد»؛ ليحمل هوية الإمارات، ويجعل لغة الإشارة مرآة لثقافتها. وتؤكد أن التحول الرقمي سهّل تعلم لغة الإشارة ونشرها عبر المنصات الرسمية، وأن ما يفرحها هو شغف الشباب الإماراتي بتعلّمها بدافع إنساني خالص.
-
كلمة زهرة بلغة الإشارة
طموح.. جامعات.. ومشاريع ريادية
تصف عبير الشحي واقع الصم في الإمارات، اليوم، بأنه مشرق ومبشّر، مؤكدة أن أبناء هذه الفئة أصبحوا أكثر طموحاً وانخراطاً في مسارات التعليم العالي، والعمل الحر. «لم يعودوا يكتفون بتلقّي الدعم، بل باتوا أصحاب مبادرات، فيدخلون الجامعات، ويؤسّسون مشاريعهم الخاصة، ويسعون للتميّز والابتكار في مجالاتهم».. تقول بثقة. والأجمل من ذلك، أنهم كوّنوا مجتمعاً متماسكاً، يتبادل الدعم والمساندة، ويحرص على مدّ يد العون إلى كل من يحتاج؛ ليكونوا، معاً، نموذجاً لقوة الإرادة حين توجد بيئة حاضنة.
الذكاء الاصطناعي ولغة الإشارة
تحلم عبير بمستقبل تصبح فيه لغة الإشارة جزءاً طبيعياً من الحياة اليومية، مدعومة بالذكاء الاصطناعي في المؤسسات والمراكز والمتاجر والبرامج. فرؤيتها أن يعيش الأصم دون عوائق، متفاعلاً بثقة، مرئياً ومسموعاً ومُحتوىً. وفي رؤيتها، أيضاً، أن الإمارات ستكون السبّاقة، كما هي دائماً، في تفعيل مشروع الترجمة الفورية بلغة الإشارة عبر الذكاء الاصطناعي. في عالم تتلاشى به الحواجز، وتُصبح لغة الإشارة حاضرة في كل زاوية، في: المؤسسات، والمراكز، والمتاجر، والمقاهي، والبرامج، والمسلسلات. وتأمل ألا تكون لغة الإشارة استثناءً، بل لغة حاضرة بشكل دائم بفضل الذكاء الاصطناعي؛ فتُشعر الأصم بأنه مرئي، ومسموع، ومفهوم!
-
كلمة الخليج بلغة الإشارة
قصة لن تنساها
من أكثر اللحظات تأثيراً في مسيرتها؛ حين استدعيت لترجمة جلسة في المحكمة للغة الإشارة، لتكتشف أن الشخص الذي ستقوم بترجمة كلامه هو جار طفولتها نفسه.. ذاك الفتى، الذي لطالما راقبته في صمت وهي طفلة، وكانت تندهش من حركات يديه، فلم تكن تدرك - آنذاك - أنها «لغة». تقول عبير، بتأثر: «اقتربت منه، وقلت: كنت جارتك الصغيرة، أراقبك دون أن أفهمك.. واليوم، أفهمك، وأقف؛ لأكون صوتك». كانت تلك اللحظة أكثر من صدفة؛ كانت رسالة مُلهمة بأن ما نراه بعين الفضول في طفولتنا، قد يتحوّل، يوماً ما، إلى رسالة حياة.
وتختم عبير بدعوة من القلب: «لغة الإشارة ممتعة وبسيطة، وتعلمها لا يغيّرك وحدك، بل قد يمنح الأصم شعوراً بالانتماء والبهجة. فلا تتردد في أن تكون سبباً لسعادته».