#مقالات رأي
د. نرمين نحمدالله اليوم
مهيب هو كتعويذة لا تدري من ألقاها، لكنك توقن أثرها. بسيط هو، كقطرة مطر تسقط على بتلة زهرة ناعمة، لكن حضوره بدا لي أخّاذاَ حقاً، وهو يبدو لي دوماً كظل أسود يظهر في خلفية الصورة، يَبْسُط ذراعَيْه المفرودتين جواره، كأنه ينتظر أن يتلقف عطية من السماء.. عطية لا تأتي أبداً!
تماماً في السابعة.. في السابعة من كل يوم، وفي زحام المحطة، حيث تتشابك الوجوه، و«تزوغ» العيون باحثةً عن وجهتها، أراه دوماً - وأنا أنتظر دوري على مقعدي - يقف بعيداً، وقد أعطى ظهره للجميع، كأنه لا يراهم ولا يرونه.. فما قصته؟!
وشاية من طفل صغير أهدتني حكايته، حكاية مؤلمة لرجل فقد ابنه وزوجته في حادث، وقد وصله الخبر في الساعة السابعة، من حينها وهو يأتي إلى المحطة كل يوم في الموعد نفسه، ينتظر - بهيئته هذه - لساعة كاملة قبل أن يستجمع خطاه، ويرحل!
السابعة.. حيث كانت - وقت عودته إلى بيته - تستقبله زوجته، والآن يعود إلى بيت خاوٍ؛ لهذا يقف هنا، يؤجل لحظة مواجهة الفراغ الذي ينتظره، وعالقاً في الزمن، الذي توقف فيه عالمه.
السابعة مساء!.. وكأنَّ القدر اختار له هذه الساعة الاستثنائية، ساعة «البيْن بَيْن».. فلا هي ذروة النهار، ولا منتصف الليل، تلك الساعة التي يبدأ فيها المنحنى في الهبوط تاركاً (بَعْد)، ليست أبداً كـ(قبل)!
ورغم أنني لم أرَ وجهه أبداً، لكنني أكاد أقسم أنني أحفظ هذه النظرة في عينَيْه، تواجهني بها صورة مرآتي كل يوم، أنا أيضاً لديَّ (ساعة سابعة)، لم تَعُدْ بعدها حياتي كما كانت، غير أنني لا أملك شجاعة التوقف عندها كل يوم، فأخدع نفسي بتجاهلها لعلها تمضي.. لكنها لا تمضي أبداً!
كلنا رجال ونساء الساعة السابعة.. بداخلنا تلك الساعة التي تَجَمَّدَ فيها الزمن، تاركاً لنا حرفاً مفقوداً في «أبجدية» تلعثمت كلماتنا بعدها قسراً.. ساعة نود لو نعيد كتابتها في قصتنا؛ لعل النهاية تتغير.. ساعة تعرقلت فيها خطواتنا؛ فلم نملك إلا أن نغير الطريق.. بعضنا لا يزال هناك فيها عالقاً، وبعضنا نجح في أن يدور حولها؛ ليصنع من اللحد مهداَ، لكنَّ أحداً لا ينساها أبداً!
(رجل الساعة السابعة)!.. كم كنت أشفق عليه، لكنني صِرْتُ أغبطه!.. فقد اتخذ طريقته؛ كي يدور حول الجدار، الذي عجز عن تسلقه، يذهب ويعود كل يوم، كأنه يَغْزِلُ من انتظار الأمل ثوب النجاة.. قد لا ينسى، لكنه لا يسقط.. قد لا يبتسم، لكنه لا يبكي.. قد يكون قد فَقَدَ بعض روحه، لكنه يسعى قدر طاقته؛ ليحتفظ بما بقي.. يسمونه «الصبر»، وأسميه «مكافأة» يهديها القدر لمن أجاد تلقي صفعاته؛ فاستحق «رَبْتة» العوض الجميل!