«الهوت كوتور» بين الحلم والواقع.. كيف وُلدت الموضة الراقية؟
#أخبار الموضة
زهرة الخليج - الأردن 2 نوفمبر 2025
«الهوت كوتور» التي تعني، حرفيًا، بالفرنسية: «الخياطة الرفيعة»، تمثل قمة الفخامة في عالم الموضة. فهي تجسد فلسفة تكاملية، تحتفي بالإبداع والوقت والحرفية إلى حدّ الترف. إنها المنصّة التي تتلاقى فيها يد الحرفي مع رؤية المصمم؛ لتولد قطعًا تتجاوز مفهوم الموضة نحو عالم الفن القابل للارتداء، في منحوتات تتحرك، وتلمع، وتحكي قصة كل مَنْ ترتديها.
رحلة الأزياء الراقية، التي بدأت من قلب باريس في منتصف القرن التاسع عشر، هي قصة تطوّر الذوق والجمال، ومرآة لتغيرات المجتمع والثقافة على مرّ العقود. من أوائل المصممين، الذين جسّدوا فكرة «القطعة المصمّمة خصيصًا»، إلى بيوت الأزياء التي جعلت مِنْ كل عرض مسرحًا للدهشة، تواصل «الهوت كوتور»، اليوم، إشعال الخيال ذاته، الذي بدأته منذ أكثر من قرن ونصف.
ولأنها أكثر من مجرد أزياء، فإن تتبّع مسيرتها بمثابة الدخول إلى عالم تحكمه القيم القديمة للفخامة الحقيقية: الوقت، والتفرد، والاهتمام بالتفاصيل التي لا تُقدّر بثمن. لكل عاشقة للتميّز، ولكل من ترى في الأناقة فناً لا استهلاكًا.. هذه الرحلة تستحق التأمل، والإنصات، والانبهار.
-
تشارلز فريدريك وورث
ولادة الأزياء الراقية:
الاسم فرنسي، والقواعد فرنسية، والاهتمام بالتفاصيل فرنسي أيضًا. لذلك قد تتفاجئين؛ عندما تكتشفين أن كل تاريخ الأزياء الراقية بدأ على يد رجل إنجليزي. يعود أصل الأزياء الراقية إلى عام 1858، حين أسس المصمم الإنجليزي، تشارلز فريدريك وورث، أول دار أزياء راقية حقيقية في باريس.
ويُلقب وورث بـ«أبو الأزياء الراقية»؛ لنهجه الثوري في تصميم الملابس. فقبل عصره، كان صانعو الملابس يبدعون بحسب طلب الزبائن فقط، دون أي رؤية فنية مستقلة. أما وورث، فقد غيّر اللعبة بالكامل عبر تصميم مجموعات كاملة، وعرضها على عارضات أزياء حية؛ لتتمكّن العميلات من اختيار القطع مباشرة من المجموعة.
-
«الهوت كوتور» بين الحلم والواقع.. كيف وُلدت الموضة الراقية؟
الزوجة العارضة:
استخدم وورث زوجته «ماري»، الشابة الجذابة، نموذجاً لعرض تصاميمه في العلن، وإقناع الناس بمهاراته. نجحت ماري، وورث، في عرض بعض رسومات زوجها على «مدام ميتيرنيخ»، أميرة نمساوية، وزوجة السفير النمساوي في باريس، وقد أعجبتها التصاميم جدًا. وسرعان ما طلبت الأميرة من وورث تصميم فستان لها، ارتدته في إحدى الحفلات الكبرى، التي حضرتها الإمبراطورة أوجيني، فأُسرت الإمبراطورة بجمال الفستان؛ لدرجة أنها استفسرت عن المصمم، وتفاصيل تصميمه.
بعد ذلك بفترة قصيرة، تم تأسيس دار وورث، وظهر مفهوم مصمم الأزياء كما نعرفه اليوم. ومع ذلك، ظهرت، أيضًا، فكرة وضع اسم المصمم على قطعة الملابس، فقد كان وورث أول من وضع اسمه على بطاقة داخل الملابس؛ لتصبح العلامة التجارية للأزياء الراقية حقيقة ملموسة.
وتميزت تصاميمه بالدقة المتناهية، واستخدام الأقمشة الفاخرة، ورفع دَوْر صانع الملابس من مجرد حرفي إلى مصمم أزياء وفنان حقيقي. ومن بين عميلاته من النخبة الاجتماعية، كانت الإمبراطورة «أوجيني»، إحدى صديقاته الأكثر ولاءً، ما عزز مكانته، وأرسى أساسًا لجعل الأزياء الراقية حكرًا على الثريات.
-
«الهوت كوتور» بين الحلم والواقع.. كيف وُلدت الموضة الراقية؟
ظهور دُور الأزياء الراقية:
بعد نجاح وورث، بدأ مصممون آخرون في تأسيس دورهم الخاصة، والمعروفة بـ«Maisons de Couture». وقد شهدت هذه المرحلة صعود عدة أسماء لامعة:
- بول بواريه: الذي حرّر النساء من الكورسيهات، وأدخل السيليوهات الانسيابية.
- كوكو شانيل: التي أحدثت ثورة بالموضة النسائية في عشرينيات القرن العشرين، مركّزة على الراحة والأناقة، وهي مشهورة بتصميم «الفستان الأسود القصير»، وعطر «Chanel No.5».
- كريستيان ديور: الذي كشف بدوره، عام 1947، عن «اللوك الجديد»، الذي أعاد تعريف الأنوثة عبر خصر مشدود وتنانير واسعة؛ ليصبح علامة فارقة في موضة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
-
«الهوت كوتور» بين الحلم والواقع.. كيف وُلدت الموضة الراقية؟
وضع المعايير.. غرفة الأزياء الفرنسية:
عام 1868، تأسست منظمة المجلس التنظيمي للأزياء الراقية في فرنسا، وكانت بمثابة نقابة ورقابة لحماية وتنظيم صناعة الأزياء الراقية. وضعت هذه المنظمة معايير صارمة؛ لتحديد ما يُسمى «الهوت كوتور»، بما يشمل:
- أن تكون القطع مصنوعة حسب الطلب مع جلسة قياس واحدة على الأقل.
- أن توظف كل دار أزياء 20 موظفًا بدوام كامل على الأقل.
- أن تتكون كل مجموعة من 35 تصميمًا على الأقل، ويتم عرضها مرتين سنويًا، خلال أسبوع الأزياء في باريس.
وساعدت هذه القواعد في الحفاظ على حصرية الأزياء الراقية، وتعزيز المنافسة بين المصممين.
تأثير الأحداث العالمية:
تطورت صناعة الأزياء الراقية، غالبًا، بتأثرها بالأحداث التاريخية. فقد سمحت الثورة الصناعية بالتقدم في صناعة النسيج وتقنيات الخياطة، ما أتاح للمصممين تجربة أقمشة وأساليب جديدة.
وخلال الأزمات، أظهرت الأزياء الراقية مرونتها؛ فبعد الحرب العالمية الثانية، أعاد ديور بمجموعته الشهيرة «اللوك الجديد» الحياة للموضة الباريسية، محققًا رمزًا للأمل والتجدد بعد سنوات القسوة.
في المقابل، خلال أوقات الركود الاقتصادي، مثل عام 2004، واجهت دور الأزياء تحديات كبيرة، واضطرت علامات عدة إلى تقليص عروضها بسبب انخفاض الطلب على الموضة الفاخرة.
-
جان بول غوتييه
«العصر الذهبي» للأزياء الراقية:
يُعتبر منتصف القرن العشرين «العصر الذهبي» للأزياء الراقية. وبرز فيه مصممون، مثل إيف سان لوران، الذي قدم مجموعات الملابس الجاهزة، ما جعل الموضة الراقية بمتناول الجميع دون فقدان لمسة التميز. كما شهدت هذه المرحلة إبداع أسماء لامعة، مثل:
- بيير بالمان: رمز الأناقة الفرنسية الكلاسيكية. تأسست العلامة عام 1945، ويوجد حاليًا 16 متجرًا أحادياً للعلامة التجارية، بما في ذلك مواقع في نيويورك ولندن ولوس أنجلوس ولاس فيغاس وميامي، وفي فيا مونتينابوليوني في ميلانو.
- جان بول غوتييه: مصمم أزياء فرنسي، معروف بتصاميمه غير التقليدية، التي تتضمن زخارف، مثل: الكورسيهات، والمارينيير، وعلب الصفيح، ولقب بـ«الطفل المتمرد»، الذي تحدى القواعد بأسلوبه الابتكاري.
هؤلاء المصممون لم يقدموا ملابس مذهلة فحسب، بل ساهموا في تشكيل حركات ثقافية عبر أعمالهم.
-
«الهوت كوتور» بين الحلم والواقع.. كيف وُلدت الموضة الراقية؟
الألفية الجديدة.. مأساة وأمل:
شهدت صناعة الأزياء الراقية، في السنوات الأخيرة، أحداثًا مفصلية تجمع بين الإبداع الباهر والتحديات المروعة. ففي عام 2010، انتهت حياة المصمم الاستثنائي ألكسندر مككوين بالانتحار، تاركًا إرثًا من الإبداع والابتكار لم يُشهد له مثيل. وفي العام التالي، تمت إقالة جون غاليانو، أحد ألمع مصممي الأزياء الراقية، من دار ديور في حادثة صدمت العالم.
لكن الحياة استمرت، ومعها الأمل والإبداع. ففي 2012، أصبح أندريا بروكا أصغر مصمم أزياء راقية في العالم، حيث افتتح متجره في دبي؛ عندما كان يبلغ من العمر 16 عامًا، مستهدفًا بشكل رئيسي العائلات الملكية في الشرق الأوسط. ثم جاء راد هوراني، في 2013؛ ليقدّم أول مجموعة أزياء راقية موحدة للجنسين، في خطوة جريئة نحو الحداثة والشمولية.
ومع مرور الوقت، بدأت دور الأزياء الكبيرة تستثمر في دعم الحرفية التقليدية، بما في ذلك تلك المتخصصة في التطريز، والريش، وصناعة الأحذية، والقبعات، والزخرفة، والأزرار.
لاحقًا، تغيرت هوية من يشترين الأزياء الراقية؛ فلم يعدن فرنسيات فقط، بل من روسيا والصين والشرق الأوسط. ولم تعد هذه الملابس مجرد أزياء، بل غالبًا تُعتبر قطعًا للمقتنيات ومستثمَرة بعناية، حيث تزداد قيمتها مع مرور الوقت، بشرط توفر الموارد المالية للانطلاق في هذا الاستثمار الفاخر.
2020.. صدمة صناعة الأزياء الراقية:
كان عام 2020، بمثابة الزلزال الذي هزّ عالم الأزياء الراقية من جذوره. فبين ليلة وضحاها، تحوّلت أضواء المنصات الباريسية إلى شاشات رقمية، وغابت همسات الأقمشة عن صالات العرض الفخمة، التي كانت يومًا ملتقى النخبة والذوق الرفيع.
وجاءت جائحة «كورونا» كعاصفة أطفأت وهج هذه الصناعة، التي اعتادت الرفاهية والبريق. ولم تكن الخسارة مادية فحسب، بل وجدت دور الأزياء نفسها أمام واقع جديد، يفتقر إلى جمهور العروض، والمناسبات الكبرى، وإلى تلك الرغبة في التأنّق التي تغذّي شغف الشراء. ومع إلغاء حفلات الزفاف والمهرجانات والمناسبات الاجتماعية حول العالم، خفت بريق الأزياء التي صُنعت لتُعرض أمام العالم؛ لا لتتراكم في خزائن مغلقة.
لكن وسط هذا الركود، ظهرت بارقة أمل جديدة؛ فقد بدأت بيوت الموضة تُعيد التفكير في مفهوم الفخامة، لتصبح أكثر قربًا من الإنسان، وأقل ارتباطًا بالمظاهر. ومن رحم الأزمة؛ وُلدت موجة من الإبداع الهادئ، حيث استبدلت الخياطة الراقية فساتينها بتصاميم أكثر بساطة وصدقًا، كأنها تقول للعالم: «الأناقة الحقيقية لا تُطفئها العواصف».