رئيسة التحرير نسرين فاخر تكتب: عتمة في «مدينة النور»
#مقالات رأي
نسرين فاخر اليوم
كنت في باريس، أتنقّل من عرض أزياء إلى آخر، محاطةً بأناقة لا تنتهي، وجداول زمنية دقيقة، وضجيج عدسات لا يرحم.. كل شيء كان محسوبًا بالدقيقة، إلى أن قرّر هاتفي أن ينطفئ، دون سابق إنذار، فلا رسالة، ولا تنبيه. هكذا وجدت نفسي أحدّق في هاتفي، ولا أرى سوى شاشة سوداء.. ويكفي أن تشعر - في تلك اللحظة - بأن الأبواب قد أُغلقت في وجهك وسط شارع مزدحم!
هل يمكن أن يخذلني هاتفي؟!.. يا إلهي!
دخلت في سلسلة من المحاولات؛ لأستعيد الشاشة، والضوء، والكاميرا، والصور.. ضغطت على الزر الجانبي، ثم زر الصوت. كتمت أنفاسي؛ لأستعيد هدوئي، وأواصل المحاولات التي يعرفها كلُّ من عاش هذه «الخيانة التكنولوجية»، ومنها: نفخٌ خفيف، وتحريكُ هادئ، وإعادة تشغيل وهمية، ثم تلك اللحظة التي أضغط فيها على الشاشة، كأنني أقدّم إليها «إسعافاً أولياً»!.. لم أكن خائفة على الجهاز بقَدْر خوفي على العالم، الذي ابتلعه معه. كنتُ وجهاً لوجه أمام ثقافة المحو.. كيف يمكن أن يحدث هذا؟!
كل المعلومات والدعوات والأرقام والأسماء والعناوين والخرائط والإيميلات والرسائل والصور، وحتى بطاقتي البنكية، ابتلعتها «الشاشة السوداء». فنحن الجيل الذي اعتاد «كبس الزر» على حساب الذاكرة.. لم أعد أحفظ رقمًا واحدًا عن ظهر قلب، ولا عنوانًا واحدًا خارج تلك الشاشة.
وقفت أمام مرآة كونية، بلا دليل يشير إلى وجودي في باريس. فالإحساس بالتيه والضياع خبرته، وعشته هناك!.. أنا المتصلة بالعالم كلّه بضغطة واحدة، أدركت كم يمكن لتلك الضغطة أن تعزلنا حين تختفي، وجدت نفسي - فجأةً - غير قادرة على الوصول حتى إلى أهلي، أو أقرب الناس إليَّ. إنه ضياع حقيقي، يحمل عمقًا ومعنى، ويدفعنا إلى طرح أسئلة، مثل: ماذا لو توقف كل شيء حولنا؟.. كيف سنكون؟.. ضياع يُشعرك بأنك خرجت من الزمن، ومن الخريطة، ومن القدرة على قَوْل: «أنا هنا».
وقفت لثوانٍ، أحاول التظاهر بالهدوء، ثم تخليت عن «كرامتي التكنولوجية»، واتجهت إلى «قسم الاستقبال» في الفندق، بابتسامة متوترة، وشرح مرتبك، وطلبت من الموظف هاتفه؛ فتردّد لحظة، ثم سلمني إياه. حينها شعرت بأن مفتاح النجاة بين يديَّ!.. دخلت إلى حسابي على وسائل التواصل الاجتماعي من هاتفه، وبدأت أبحث عن أختي، كما يبحث تائهٌ عن علامة يعرفها في مدينة غريبة. كتبت لها: «لا تتصلي.. لا ترسلي.. فقط اعرفي أنني بلا هاتف!».
المفارقة أنني، وسط عاصمة الموضة، تعلّمت درسًا لا علاقة له بالأزياء؛ فلم أعد أخاف من «ضياع الطريق»، بل من «ضياع الوصول».. تلك اللحظة المخيفة، التي تأخذنا نحو عتمة مريبة، يصعب فيها أن تقول: «أنا بخير!».
منذ ذلك اليوم، لم أعد أنظر إلى الهاتف كجهاز، بل كنسخة افتراضية من ذاكرتي، ومن علاقاتي، ومن حياتي كلها.. وربما من «هشاشتي» أيضًا. كنت - وجهاً لوجه - أمام سؤال كبير: ماذا لو جُرّدنا من ذاكرتنا، ومن خصوصيتنا، ومن وسيلتنا الأهم في العمل والتواصل؟.. وماذا لو كانت العتمة، أحيانًا، هي التي تعلمنا معنى النور؟!