#مقالات رأي
لولوة المنصوري 8 أكتوبر 2022
حينما دخلت الأرض من النافذة، وجلس الكاتب بفضول فطريّ في الكوخ، علّمه هواء العشب على الجبال تعاليم مشاركة الأشياء اللامرئية، والسكن فيها بالشّعر والذّوق والفلسفة، وفق وظيفة التصغير الحالمة.
نَظَرَ الكاتب في عين الأبواب الداخلية إلى كثافة روحه، أبصر الأشياء الدقيقة الصغيرة بعين الخيال، وتساءل: أين يقع ينبوع هذه العين؟
تريد العين الجوهرية من الكاتب أن يختار كوخاً لخلوته في الأعالي، هادئاً وفقيراً ومعزولاً جداً، تائهاً في الوحدة العظيمة، وممتلئاً بالزمن، ومطلاً من سفوح الأبد. هذا هو الشكل المطلق للتخلي، رحلة البحث عن الكوخ هي رحلة لاكتشاف الذات والمطلق، هي رحلة لقطع التعلّقات، وفتح العيون، واكتشاف المعنى الحقيقي للحياة.
أن يكون الكوخ ضئيلاً، وفي منتهى الأشياء الخفيّة واللامرئية، ومقابلاً ذلك الجبروت الضخم للغابات والأنهار والمرتفعات العملاقة، أن يكون الكوخ مرصداً خفياً لكون عظيم، ولا يتحقق ذلك إلا في حضن الجبال!
لماذا اختار «هيدغر» ملاذه الفكري في الجبال؟
لماذا كلّم زرادشت «نيتشه» في أعالي الألب؟
لماذا اختار الصيني، غاو شينغجيان، الجبال العظيمة؛ ليكتب رائعته الفريدة «جبل الروح»؟
لماذا الأعالي قرينة مهبط النداءات الوجودية؟
لماذا لم يكن الوادي أو السهل أو البحر مركز احتضان التائهين في فكرتهم؟ رغم أنها أرجاء فسيحة متدفقة بالهواء، وممهدة لانسياب الرّوح بطلاقة وحرية؟
إقرأ أيضاً: شيماء الوطني تكتب: حليب.. وخبز!
إن الجبال ليست، كما نراها، في مستوى الظواهر المادية مجرد صور علوية، تحدّها مجموعة علاقات حسابية وعددية، كما في الاعتراضات المجرّدة للفلاسفة، إن حقيقة الجبال كامنة في التسلل داخل تلك الشعرية الحالمة، في الهالة السحرية، والوهم المتحرك، وفق عوالم تنبؤية، في الحلم الذي يحفر الكتلة الداخلية؛ ليسمح لنا بفهم المرئي، إن العالم جميل في أعماقه، حميم في خفائه، والإخفاء وظيفة أولية للحياة، أما الفضول فهو العمق الكثيف في الأشياء.
الجبال.. هي الجذر الحالم لبذور الكلمات، والعبور الجوهري الأمثل لمريدي الكتابة، ومنفذ لاجتياز الحدود الخارجية، والاغتسال من الضجيج، وفضاء أبيض للسكن داخل الأشياء الحميمة، التي تجذبنا لتأملها داخل أجواء الرّاحة، غير أنها راحة ممزوجة بحزن الوحدة، مشتعلة بلغز السؤال، وعواصف المعرفة، ودبيب المنطق، وفيضان الفضول في المعنى. إنها راحة القلق، والكاتب الجوهريّ داخل دوائر هذه الراحة الغامضة أشبه بفراشة منجذبة إلى المصباح! تكراراً يحوم حول ذلك الشك العظيم: من نحن؟ وأين هو حيّزنا بين كل هذه الضخامة والانتشار السريع والمريب في المجهول؟ وإلى متى نجرُّ ظلّنا العملاق على مياه الحياة؟ راضخين.. وأحياناً متمردين في الفراغ، رغم أن الطبيعة سائرة في عملية الاصطفاء بلا هوادة.