#منوعات
كارمن العسيلي اليوم 11:00
في رحاب «المجمع الثقافي» بأبوظبي، حيث تتلاقى الحضارات، وتتعانق الفنون، يفتح معرض «أن تكتشف ماليزيا هو أن تحب ماليزيا.. من مقتنيات علياء وفاروق خان» نافذة ساحرة على المشهد الإبداعي المعاصر في هذا البلد الآسيوي المتفرد. وبرعاية دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، يقودنا هذا «المعرض»، في سرد بصري قصصي، تمسك بخيوطه القيمة الفنية أمل الخاجة؛ لتكشف لنا عن كنوز فنية آسرة، تجعلنا ننغمس في تاريخ ماليزيا الغني، وتنوعها الثقافي الأخاذ.
-
المصدر: «المجمع الثقافي»، دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي.
بصوت هادئ، وعينين تلمعان شغفًا بالفن، تسترجع أمل الخاجة، التي تنتمي إلى جيل شاب يؤمن بقوة الفن في التقريب بين الثقافات، بدايات علاقتها بهذا العالم الساحر، قائلة: «دخولي عالم الفنون كان منذ حوالي عشر سنوات؛ فقد نشأت في كنف عائلة تقدر الفنون، وتحرص على زيارة المعارض والمتاحف. هذا الاهتمام المبكر قادني إلى دراسة الفن أكاديمياً، ثم الانضمام إلى دائرة الثقافة والسياحة، حيث أعمل على مشاريع متنوعة بقسم الفن العام». وفي هذا المعرض، تحديداً، تضافرت جهود أمل مع رؤية القيمة الفنية الماليزية زينة خان، في تعاون مشترك أثمر هذه البانوراما الفنية الفريدة، حيث تدير زينة مقتنيات علياء وفاروق خان في ماليزيا، وهما من أبرز جامعي الأعمال الفنية المعاصرة هناك.
سرد قصصي
«المعرض مستمر حتى شهر سبتمبر، والأعمال الفنية المعروضة تأتي من مقتنيات علياء وفاروق خان، اللذين يركزان - بشكل أساسي - على الفن المعاصر في ماليزيا، وتطوره عبر المراحل الزمنية المختلفة».. بهذه الكلمات، تستهل أمل حديثها عن قصة اختيار الأعمال الفنية، مشيرة إلى أن الزائر سيلاحظ كيف يتدرج «المعرض» في سرده البصري، بدءاً من بدايات الحركة الفنية في ماليزيا، مروراً بقضايا اجتماعية عميقة، ووصولاً إلى عوالم السرد القصصي السريالي والتصويري الذي يلامس الوجدان. «جاءت فكرة المعرض، واختيارات الأعمال، كمحاولة لسرد تاريخ ماليزيا من خلال عيون الفنانين، وألوانهم».. تقول أمل، وتضيف بتمعن: «قام الفنانون الماليزيون بدور المؤرخين في أعمالهم. فكانوا يعيدون التفكير في التاريخ، ويرونه من منظور نقدي، ويطرحون الأسئلة حوله وحولنا كأفراد وكمجتمع، ويسعون إلى إيصال هذه الأفكار بأساليب فنية مبتكرة». وعملت أمل الخاجة مع زينة خان؛ لإظهار هذا الدور، من خلال اختيار الأعمال الفنية، التي تركز على لحظات محورية في تاريخ ماليزيا، بدءاً من التحول الاقتصادي الهائل الذي شهدته البلاد، مروراً بتطوير مشروع «سايبر جايا» الطموح، ووصولاً إلى تبني نظام «الباركود»، الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، وكان يمثل تحولاً مفاجئاً في حينه.
-
المصدر: «المجمع الثقافي»، دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي.
أثناء تجولها بين أروقة «المعرض»، تنقل أمل الخاجة الزائر معها في رحلة بصرية وعاطفية، عبر تفاصيل الأعمال الفنية المعروضة، وتنظر وتتأمل، وتشير بعين خبيرة، وقلب ينبض بالفن، فتفتح أمامنا نوافذ على قصص وحكايات، تتجاوز الإطار والزمن. وتتحدث بشغف لا يخفت، يتجلّى في نبرة صوتها، ووميض عينيها، كلما توقفت أمام عمل يحمل - في طيّاته - سرداً تاريخياً، أو بصمة ثقافية عميقة. وكأنها لا تكتفي بعرض الأعمال، بل تعيد إحياءها من خلال رواياتها، مانحة كل قطعة روحاً تتكلم، وحكاية تنتظر من يصغي إليها. في لحظات كهذه، يتحوّل «المعرض» إلى مسرح حيّ، يتداخل فيه الفن مع التاريخ، والروح مع التجربة، تحت إشراف قيّمة فنية ترى الفن وسيلة لفهم العالم، والعبور بين ثقافات مختلفة. وتتوقف أمل عند عمل فني مميز بـ«الأبيض والأسود»، قائلة: «هذا العمل يجسد شخصية (بانديتا)، وهو مفكر ولغوي ماليزي، لعب دوراً حاسماً في إعادة تنقيح اللغة المالاوية. كان شخصية فكرية بالغة الأهمية»، ثم تشير إلى العمل المستوحى من خطابه التاريخي في تمكين المرأة، مضيفة: «أخذ الفنان جزءاً من خطابه، الذي يتحدث فيه عن دور المرأة بالمجتمع، ونسجه على قماش اللوحة بأسلوب قصصي فريد».
وتلفت أمل انتباهنا إلى لوحة أخرى، تحمل عمقاً ثقافياً مختلفاً، قائلة: «هذه اللوحة للفنان أحمد فؤاد عثمان، تصور شخصاً مستلقياً يحمله جمعٌ من الناس. هذه اللوحة مستوحاة من تجربة الفنان خلال سفره إلى إيطاليا». وتؤكد أمل على رؤية الفنان، قائلة: «ما أحببته في هذا الفنان، هو محاولته استخدام الأساليب الفنية الغربية، وتطبيقها في سياق شرق آسيوي، مستوحياً من الممارسات الثقافية والشعبية الآسيوية، ودمجها في لوحاته بأسلوب شرقي مميز».
تحقيق التوازن
وحول تحديات تحقيق التوازن بين السرد واللغة البصرية، وصعوبة اختيار القطع، توضح أمل: «بدأ فاروق وعلياء خان انتقاء الأعمال الفنية منذ 30 عاماً، ولديهما أكثر من 1300 عمل فني. لم تكن مهمة اختيار 45 عملاً، من بينها، سهلة على الإطلاق»، وتضيف: «من حسن حظنا أنه كانت لدينا زينة، ابنة فاروق وعلياء، فلديها معلومات قيمة عن خلفية كل عمل، والقصة وراء اقتنائه. أمضيت مع زينة وقتاً طويلاً، أستمع منها إلى تاريخها المذهل، وتاريخ عائلتها، وعلاقتهم الوثيقة بالفنانين». تسير أمل بخطى واثقة بين جدران «المعرض»، وعيناها تتنقلان بين اللوحات، كما لو أنها تقرأ فصولاً من كتاب بصري لا ينتهي. تتوقف أمام عمل هنا، وتقترب من منحوتة هناك، تلامس بعينيها التفاصيل، وتترك المجال لصمت التأمل أن يسبق كلماتها. وحينما تُطرح عليها الأسئلة، لا تُجيب كمن يحفظ المعلومات، بل تتحدث كأنها تنقل إحساساً عميقاً، فتُصغي إلى اللوحة أولاً، ثم تُفسّرها. صوتها هادئ، لكنه مشبع بالشغف، وتصوغ كلماتها بعناية، فتُضيء بها المعاني الكامنة خلف الألوان، والخطوط، والرموز.

وفي كل لحظة من لحظات الحوار، تبدو الأعمال الفنية كأنها مساحة تُعرّف بها ذاتها، وتدعونا - عبرها - إلى اكتشاف العوالم، التي تحب.. تقول أمل: «الكثير من هذه الأعمال يمثل ممارسات فنية جديدة. على سبيل المثال، لوحة (المد العالي) للفنان فوزان عمر، تبين طريقته في قص الكانفاس، ودمج تقنية (الباتيك)، ثم وضع قصاصات الكانفاس في طبقات، وتحويلها إلى شكل ثلاثي الأبعاد؛ لتبدو كأنها بورسلين، مهد الطريق لأسلوب فني جديد. ويمكن القول بأن فوزان عمر من أهم الفنانين، الذين غيّروا أسلوب الفن الماليزي، وكان من المهم تضمين أعماله الثورية في (المعرض)».
وتسلط أمل الخاجة الضوء على بُعد آخر بالغ الأهمية، في عملية انتقاء الأعمال الفنية للمعرض، موضحة أن من بين المحاور، التي تم التركيز عليها، نقاط الالتقاء بين تاريخ الفن في الإمارات، وتاريخه في ماليزيا، وتضيف: «بحثنا عن مقاربات جمالية ومفاهيمية؛ فوجدنا - بالفعل - تقاطعات لافتة، حتى على مستوى نشأة العمل الفني نفسه، إذ بدت التجارب متقاربة بشكل مدهش بين الفنانين في البلدين». وتردف قائلة: «هذا التشابه لم يأتِ بمحض الصدفة، بل شكل حواراً عميقاً بين شرق وآخر. فكلا البلدين يزخر بتنوع ثقافي غني، ففي الإمارات تتعايش ثقافات متعددة بانسجام، وماليزيا كذلك، حيث تمتزج فيها التأثيرات الصينية، والهندية، ضمن نسيجها الاجتماعي، والفني». وتلفت أمل إلى أن هذا التنوع المشترك ينعكس، بوضوح، في النتاج البصري، فتقول: «حتى على مستوى التعبير البصري، هناك لوحات بضربات فرشاة، وتقنيات تذكرنا بأعمال فنانين إماراتيين، كما لو أننا نستشعر الروح نفسها، والمدرسة الفنية ذاتها، ولكن بأدوات ورموز محلية مختلفة».
-
أمل الخاجة: الأعمال المعروضة تشكل منظوراً فنياً مشتركاً
منهجية الاختيار
تواصل أمل الخاجة حديثها عن منهجية اختيار الأعمال المعروضة، وتغوص في عمق المشهد الفني الماليزي، موضحة أن الرحلة بدأت مع أسماء رائدة، شكلت النواة الأولى للحركة الفنية هناك؛ فتقول بنبرة الخبيرة المتتبعة لتفاصيل المسارات الفنية: «كان فوزان عمر، ويوسف غني، من مؤسسي حركة الفن المعاصر في ماليزيا، وتبعتهما مجموعة (متاهاتي الفنية)، التي أسسها أربعة فنانين، هم: أحمد شكري، وأحمد فؤاد عثمان، وماسنور راملي محمود، وحامير صويب، ومنها انطلقت تجارب عدة، مهدت الطريق للمشهد المعاصر في ماليزيا. هذه المجموعة شكلت ملامح الجيل الأول من هذه الحركة». وتتابع، مسلطة الضوء على تطور هذه الساحة الفنية: «مع مرور الوقت، عاد بعض الفنانين من دراستهم الأكاديمية في الخارج، ليساهموا في بناء جيل جديد من المبدعين، عبر تدريسهم الفن، وتأسيس فضاءات داعمة، كالفنانة شوشي سليمان، التي أسست (غاليري) خاصاً بها، وكانت من الشخصيات المؤثرة في احتضان المواهب الشابة، وتشجيعها على التجريب والتعبير، فكان لا بد من تضمين أعمالها بـ(المعرض)».
تتحدث أمل الخاجة، عن الجيل الجديد من الفنانين الماليزيين، بنبرة يغمرها التفاؤل، والرغبة في استشراف المستقبل، فتقول بأسلوب يفيض بالثقة: «حرصنا على اختيار أعمال لفنانين معاصرين يمثلون الجيل الأول، لكن من الشريحة الأحدث، مثل: علي نوراظمال يوسف، وأنيكيتيني مادين، ليكونوا بمثابة شهادة حيّة على أن الحركة الفنية في ماليزيا ما زالت تنبض بالحياة. إنها لا تتوقف عند حدود الماضي، بل تستمر في الاتساع والتطور، محافظة على جذورها ومنفتحة، في آنٍ، على رؤى جديدة، وجرأة في التعبير». وتتابع: «كان هذا جوهر رؤيتنا في بناء سردية (المعرض)، أن نرسم خريطة بصرية متكاملة، ترصد تحولات الفن الماليزي، منذ انطلاقته وحتى لحظته المعاصرة».
-
أمل الخاجة: الأعمال المعروضة تشكل منظوراً فنياً مشتركاً
وحينما يُطرح سؤال، حول الأثر الثقافي لهذا «المعرض»، تضيء ملامحها بحماسة العارف بقيمة التبادل الثقافي، قائلة: «آمل أن يشكل هذا (المعرض) نافذة مفتوحة، يتعرّف من خلالها الماليزيون على الإمارات، والعكس. فهناك الكثير من القواسم الثقافية، التي تجمعنا، لكننا لا نلتفت إليها كثيراً في زحمة الحياة اليومية. بالنسبة لي، كانت تجربة هذا (المعرض) فرصة لاكتشاف أوجه تشابه مذهلة في العيش والمجتمع والفكر. كنت أظن أننا بعيدون؛ واكتشفت أننا أقرب مما كنت أتصور». أما عن التحدي الأبرز في تنظيم معرض فني، فتشير أمل: «من السهل، تقنياً، أن تنظم معرضاً، لكن التحدي الحقيقي يكمن في الفكرة.. ما الذي يمكن أن تقدمه للزائر؟.. وما الإضافة التي تتركها لديه، بعد أن يغادر؟.. بالنسبة لي، الأهم هو كيف يرى الجمهور الأعمال، وكيف يمكن أن تتجلى الفكرة في وعيهم.. هل تلامسهم؟.. هل تصل إليهم الرسالة؟».
وتختم بتسليط الضوء على دور القيم الفني، ذلك الدور المحوري، الذي تمارسه بشغف واحتراف: «القيم الفني ليس مجرد منسّق، بل هو مَنْ يضع الرؤية، ويجري الحوارات مع الفنانين، ويتعامل - عن كثب - مع المؤسسات الفنية؛ لابتكار تجربة متكاملة. إنه صانع الأفكار والصلات، ومهمته أن يكون محفزاً، ومشجعاً، وملهماً، يصوغ تجربة متحفية، تتجاوز العرض إلى الإحساس، والتأمل، والانخراط الفكري».