#تنمية ذاتية
لاما عزت اليوم
في زحام الحياة المتسارعة، كثيراً ما نُهمل أكثر ما يلامس حقيقتنا (مشاعرنا).. فكم مرةً ضحكنا، بينما كان الحزن يُثقل صدورنا؟!.. وكم مرةً غمرنا الغضب ونحن في الحقيقة نخشى الخسارة؟!.. فهل توقفتَ يوماً؛ لتسأل: ما الذي أشعر به حقاً؟.. المشاعر ليست عابرة كما نتصور، فهي مزيج معقد من عواطف جسدية، وتفسيرات عقلية، وتجارب سابقة. أحياناً، نجد أنفسنا نعيش تناقضاً غريباً؛ نفرح بإنجاز، ونحزن على الفراق في اللحظة نفسها. وفي أحيان أخرى، نعجز عن تسمية ما نمرّ به؛ فتكتم النفس ما لا تستطيع البوح به؛ لتظهر الآثار في الجسد على شكل صداع، أو توتر، أو أرق. لكن، هل يمكن أن نتعلم لغة مشاعرنا؟!.. وكيف نفرّق بين العاطفة والشعور؟!.. وكيف نحول الأحاسيس السلبية من عبء يرهقنا إلى جرس إنذار يساعدنا على النمو؟!.. في هذا الملف، نفتح نافذة على عالم المشاعر برفقة الدكتورة دانه محمد المرزوقي، استشاري طب الأسرة، والمتخصصة في العلاجات النفسية، التي تأخذنا في جولة؛ لفهم الفروق بين العواطف والمشاعر، ولماذا يصعب أحياناً التعبير عنها، وكيف تتحول إلى طاقة بنّاءة، أو عبء صامت على الجسد والعقل.
-
كيف نفهم أحاسيسنا ونديرها بوعي؟
ما الفرق بين العاطفة والشعور؟
توضح الدكتورة دانه محمد المرزوقي أن العاطفة استجابة جسدية لا إرادية، وسريعة، على محفز جسدي أو نفسي، مثل تسارع ضربات القلب عند الخوف. بينما الشعور هو التفسير الواعي لهذه الاستجابة، كأن نَصِفُ ما يحدث بأنه «خوف».. وتقول: «كثيراً ما يختلط المفهومان؛ بسبب سرعة حدوثهما، لكن التفريق بينهما يساعدنا على إدراك ما يجري بداخلنا».
لغة مشتركة بين البشر
تشير استشاري طب الأسرة إلى أن البحوث العلمية أكدت أن تعابير الوجه، المرتبطة بالمشاعر الأساسية، مُوحّدة لدى البشر؛ مهما اختلفت ثقافاتهم، أو لغاتهم. فالعلماء، ومنهم: إيكمان، وبلوتشــيك، اتفقــوا عــلى أن هناك مشاعر عالميـة أسـاســية، كالفرح، والحــــزن، والخـــــــوف، والغضــــــب، والدهـشــة، والاشـــــمئزاز. وتضيف: «هذه المشاعر تظهر في تعابير الوجه حتى عند الرضع؛ ما يدل على أنها لغة فطرية، يشترك فيها البشر مهما اختلفت ثقافاتهم».
كيف تنشأ المشاعر المعقدة؟
تشرح الدكتورة المرزوقي: إن المشاعر المعقدة، مثل: الغيرة، والحب، والامتنان، تنشأ عادة في الطفولة المبكرة (من 3 إلى 6 سنوات)؛ عندما تتداخل مشاعر أساسية عدة مع التفسير العقلي، والتجارب الشخصية، أو المجتمعية. وتضرب مثالاً: «الغيرة قد تكون مزيجاً من خشية الفقدان، والغضب من التهديد، والحزن لإمكانية الخسارة».
تسمية المشاعر
لماذا قد يواجه بعض الأشخاص صعوبة في تسمية مشاعرهم، أو التعبير عنها (ظاهرة عمى المشاعر)؟.. تقول الدكتورة دانه محمد المرزوقي: «الكثيرون من البالغين، لم تتم تربيتهم على ثقافة الوعي العاطفي في طفولتهم. فيكون جلُّ اهتمامهم موجهاً إلى تأمين الاحتياجات المادية أكثر من المشاعر، بل أحياناً تُحبط العادات المجتمعية التعبير عن المشاعر، كربط البكاء بالضعف». وتضيف أن هذا الكبت يترك آثاراً سلبية، تظهر في صورة مشاعر غير مُدارة، تتراكم فتظهر على شكل تَعَلّق مرضي، أو وساوس، أو حتى أمراض جسدية مثل «القولون العصبي».
التناقض العاطفي.. طبيعي وليس مرضاً
توضح استشاري طب الأسرة: «من الطبيعي أن تنتابنا مشاعر متناقضة في الوقت نفسه. ففي حفل التخرج، مثلاً، نفرح بالإنجاز، ونحزن على فراق الأصدقاء». وتؤكد أن التناقض ليس دليلاً على اضطراب نفسي بالضرورة، بل انعكاس طبيعي لتعقد التجربة الإنسانية.. وحول مدى تأثر مشاعرنا بالبيئة والتربية، مقارنة بالعوامل البيولوجية والدماغية، تشير الدكتورة المرزوقي إلى أن العوامل الجينية تضع الأساس للعواطف، بينما تشكّل البيئة والتربية المعنى المرتبط بهذه العواطف. «الطفولة المبكرة، والعلاقات الأولى، تُبرمج استجابتنا للمشاعر لاحقاً، بشكل واعٍ، أو غير واعٍ».. تبين استشاري طب الأسرة.
المشاعر السلبية.. جرس إنذار
«خُلقت المشاعر لتخدمنا.. حتى السلبية منها».. تشرح الدكتورة دانه. الغضب، مثلاً، يشير إلى أن خطاً أحمر قد تم تجاوزه، والحزن قد يدفعنا إلى مراجعة مواقفنا.. لكنها تحذر: «المشاعر السلبية تصبح خطراً؛ حين تتجاوز أسابيع عدة دون تحسن، أو تعيق النوم والعمل، أو تشكل خطراً على النفس، أو الآخرين.. عندها يجب طلب المساعدة».
المشاعر الإيجابية.. وقود الصحة
توضح استشاري طب الأسرة أن الامتنان والأمل والرضا، ترفع هرمونَي السعادة: «الدوبامين»، و«السيروتونين»، وتخفض هرمون التوتر (الكورتيزول)، وتؤكد: «وهذا ينعكس على التركيز، والذاكرة، والنوم، والمناعة؛ فيصبح الجسد أكثر قدرة على مواجهة الضغوط».
-
كيف نفهم أحاسيسنا ونديرها بوعي؟
كيف نوازن بين الإيجابي.. والسلبي؟
تقول الدكتورة المرزوقي: «المطلوب أن نسمح لكل شعور بالوجود، دون أن نجعله يسيطر علينا، ونسمّيه، ونعترف به، ثم نعمل على تفريغ (خزان المشاعر) من تلك السلبية، مثل التفكر في الإنذار الذي خلف هذا الشعور، والعمل على تصحيحه، والتعلم منه، وبعدها نغذي أنفسنا بالمشاعر الإيجابية. ولكل شعور سلبي، نحن بحاجة إلى 3–5 مشاعر إيجابية؛ لمعادلة أثره، كأن أسمي، مثلاً، ثلاثة أمور أشعر بالامتنان لوجودها».
أثر المشاعر في القرارات.. والصحة
كيف تؤثر المشاعر في اتخاذ القرارات.. في العمل، أو العلاقات الشخصية؟.. تلفت الدكتورة دانه إلى أن المشاعر ليست نقيضاً للعقل، بل داعمة له؛ فـ«المشاعر جنود تأتي لمساندة المرء في حياته اليومية؛ وتوجه الاهتمام إلى مواطن الخطر (المشاعر السلبية أجراس إنذار)، وتعجل (عند قوتها) ردة الفعل للحماية من الطوارئ، إلا أنه من الضروري تعلم كيفية إدارتها، وتفكيك أنماطها؛ لتحقيق التوازن بين العقل، والعاطفة». وتضيف أن البراهين العلمية بينت علاقة وطيدة بين الأمراض العضوية، والمشاعر المكبوتة، بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فتلك العواطف التي لم يتم الاعتراف بها، أو التعبير عنها، دائماً تُحتبس كعبء إضافي على الإنسان (نفساً، وجسداً)؛ وتنعكس في العديد من الأشكال، ومنها: الأمراض الوظيفية كالقولون العصبي، والأمراض التحسسية كالشرى، والآلام المزمنة كالصداع، والاضطرابات النفسية كالوسواس القهري، وحتى الطفرات الخبيثة. وقد أثبتت الدراسات الحديثة الأثر الكبير للعلاجات النفسية في السيطرة على هذه الأمراض، أو الشفاء منها.
المشاعر كطاقة إبداعية
المشاعر الملهم الأساسي لجميع الأساليب التعبيرية والإبداعية، وكلما اتصل المرء بمشاعره، وسمح لها بالانعكاس - بصدق - في تعبيراته، لامست الآخرين بشكل أعمق، وعكست ذلك الشعور لهم. تقول استشاري طب الأسرة: «المشاعر هي الوقود الأساسي للإبداع. فالفن، والموسيقى، والكتابة، كلها انعكاسات للمشاعر. وكلما عبّرنا عنها بصدق، لامست الآخرين، وأصبحت علاجية لنا في الوقت نفسه».
إدارة المشاعر.. والتحكم فيها
تشدد الدكتورة المرزوقي على ضرورة القيام بممارسات يومية؛ لتساعدنا في الحفاظ على مرونتنا النفسية، والبقاء بحالة مزاجية متوازنة في معظم الأحيان. ومن ذلك، ممارسة الرياضة بشكل منتظم؛ لما لها من أثر في رفع هرمونات السعادة (وأهمها الإندورفن)، فحتى 15 دقيقة، يومياً، كفيلة بتقليل احتمالية الإصابة بالاكتئاب. ومنها تمارين التنفس العميق، التي تقلل هرمون التوتر (الكورتيزول)، فمثلاً، تكرار تمرين 4:4:4 (التنفس من الأنف لمدة 4 ثوانٍ، ثم حبس النفس لمدة 4 ثوانٍ، ثم الزفير من الفم لمدة 4 ثوانٍ)، من 5 إلى 10 مرات أثناء الشعور بالغضب، أو قبل النوم، يساهم - بشكل فعال - في تهدئة الجهاز العصبي.
-
كيف نفهم أحاسيسنا ونديرها بوعي؟
تحويل الخوف والغضب إلى طاقة إيجابية
توضح الدكتورة المرزوقي أن الخطوة الأولى تبدأ بالوعي: ملاحظة الشعور، وتسميته، ومنح النفس إذناً بوجوده. بعد ذلك، يمكن الاستعانة بتقنيات العلاج السلوكي المعرفي، خاصة عندما تتكرر المشاعر نفسها، وترتبط بأفكار ثابتة. ويقوم الفرد بكتابة الفكرة التلقائية، التي ولّدت الشعور (على سبيل المثال: شعرت بالحزن؛ لأن شخصاً أعرفه مرّ بجانبي ولم يرد السلام؛ ففسرت الموقف بأنه لا يريد التواصل معي). ثم يقترح تفسيراً بديلاً أكثر واقعية (مثل: ربما لم يسمعني؛ بسبب ازدحام المكان). بعد ذلك، يُقيّم مدى منطقية هذا التفسير البديل، استناداً إلى الدلائل؛ ليلاحظ كيف يتغير شعوره تدريجياً؛ عند تبني هذه القراءة الجديدة للموقف. إن تكرار هذه الممارسة يساعد على إعادة توجيه المشاعر القوية، من مصدر تعطيل إلى طاقة إيجابية تدعم الإنجاز، والنمو.
التعاطف المفرط.. متى يصبح خطراً؟
تقول استشاري طب الأسرة: «التعاطف فضيلة، لكنه إذا استنزف طاقتنا؛ فهو يحتاج إلى وعي وحدود. وإجابة أسئلة، مثل: هل هذا شعور يخصني، أم يخص الآخر؟.. وهل هو تعاطف صحي، أم تعلق مرضي؟».
العلاج.. والدعم النفسي
ما العلامات، التي تشير إلى أن الشخص بحاجة فعلية إلى مساعدة نفسية متخصصة؛ بسبب مشاعره؟.. توضح الدكتورة دانه المرزوقي: «عندما تطول المشاعر السلبية بلا تحسن، أو تعيق النوم والعمل، أو تشكل خطراً على النفس أو الآخرين، كل ذلك يدل على أن الشخص بحاجة فعلية إلى مساعدة نفسية متخصصة. والعلاج السلوكي المعرفي، وهو الأكثر ثبوتاً علمياً، يساعد في تفكيك العلاقة بين الأفكار غير الدقيقة، والمشاعر المرهقة».
وصفة ذهبية
تختتم الدكتورة دانه المرزوقي، استشاري طب الأسرة، والمتخصصة في العلاجات النفسية، قائلة: «التوازن العاطفي ليس رفاهية، بل ممارسة يومية. تبدأ بالتسمية، والاعتراف، والتفريغ، ثم إعادة ملء (الخزان) بمشاعر إيجابية كالامتنان، والأمل. هذه هي الوصفة الذهبية، التي تتيح لنا أن نعيش بوعي وسط عالم متسارع، وضاغط».