لولوة المنصوري تكتب: ذاكرة الأرض
#مقالات رأي
لولوة المنصوري اليوم
بعض البلدان تُحيطك برعايتها، كأنها عائلات قديمة، سقطت من الذاكرة البشرية، وظلّت منغمسة عبر الزمن في ذاكرة الأرض، بدءاً من خفة الأرض والدروب، وَسَعَة الاستقبال، ورحابة الحياة، ويُسر الانتقال، ولذة مذاق مطبخها، وقوة المدد بالصحة والعافية والنشاط والمحبة والامتنان. هذه البلدان عائلتك، التي تحميك في الطريق، وترسل رسائلها المتوالية نحوك بصورة عجيبة، رسائل حارسة مُطَمْئِنة فائضة بالتدبيرات الماورائية، وكأن هناك لجنة غيبية موكلة بحمايتك، وتيسير رحلتك وتدفقك، بل هي العائلة المخفية في أدق أوصافها، ترشدك، وتُلْهِمك إلى أن يستيقظ حسك العميق بوجود نبع حنان لا مرئي، يتدفق منك وإليك وحولك، فتتذكّر أنك قد قرأت، يوماً، شيئاً من هذا القبيل، بأن لكل إنسان منا بلداً عائلياً روحياً، يعود إليه وفق توقيت ربَّاني مُلْغِز، في وقتٍ ربما يصير فيه جسدك بحاجة ماسّة إلى ذلك البلد، ووعيك قد استعدَّ وتدفق نحو الإدراك والانتباه، والسموّ عن إرهاصات الحياة، وضجيجها الكبير. ويملؤك الاحتمال الأكيد بأنك قد عدتَ إلى محيط البلد الروحي، الذي كان ينتظر عودتك إليه منذ أزمنة مجهولة.
البلدان كالعائلات الضائعة في الأصقاع، المنتشرة كالأشجار خلف الحدود، وكالأرحام الأرضية، ولكل إنسان بلدٌ يستشعر نحوه طاقة الأم أو الأب أو الإخوة أو الأجداد والأسلاف، هذا ما يحدث معي خلال مراحل التنقّل في الهند. فعلى أرضها «العجائبية»، اتصلت بي الأرض الأم (كايا)، وكانت أبعاد الالتصاق بتكوينها الطيني الصخري، وامتدادها الغابي، تصل إلى خلايا الجسد في أعمق الإشارات المرئية، واللا مرئية. وبصورة غير مقصودة، كنتُ أتناول ثمارها «الجذورية»، أي تلك التي تنمو في جذر النبتة، وهنا مدلول التنقية والتطهير والاتصال بالطبيعة، والبحث عن تشافي الجذور، وتحريرها من العوالق.
أما في أصقاع روسيا؛ فكثيراً ما استشعرتُ وجود الأب؛ فغلفتني طاقة البدء، والانتقال الجذري، من حال إلى حال، وانتبهتُ إلى وجود الفرص، التي كانت تصل أخبارها على هاتفي. وعلى أرضها وصلتني أنباء فتح الباب، الذي كان مغلقاً أمامي لسنين طويلة، وفضتُ بالمبادرة والمواجهة والشجاعة والحسم بين قرارات كثيرة. على أرضها، تعجبتُ من نفسي كيف صرتُ أحب أكل البذور!.. كنتُ أخلط البذور كلَّ صباح في وجبة غنية بالحياة الجديدة، فالبذور هي مدلول البدء، والالتحاق بالبشارات.
هكذا.. استشعرتُ طاقة هذين البلدين الممتدين من عصور تكوينية سحيقة: الهند هي الرحم والشرنقة (النموُّ الروحيُّ الباطنيُّ). وروسيا هي التحوُّل العلنيّ، هي الفراشة والأجنحة. فالبلدان يلمسان شيئاً من الذرّ والهواء والتراب. أُجزِم بأن لكل منا بلداً، خارج نطاق الحدود والجغرافيا، وأرضاً أولى احتوت البذرة إلى مراحل التجذّر، ثم انطلقت الأغصان والأوراق خارج فضاءات الأشجار والغابات والسماوات، واختارت الاستقرار في أرض بعينها؛ كي تتلقى دروسها في الحياة. فما هي الأرض التي تسكنها وتستقرُّ عليها الآن؟.. أعلم أنها مجرد احتمال لأرض الدرس والتعاليم والاختبار، فثمة أراضٍ أخرى أكثر اتصالاً بروحك، تنتظر ترحالك إليها؛ لتشعر بحنوِّها وحضنها اللامحدود، وتلمس منها عافية التكوين العائليّ القديم.
نصيحة أخيرة: حاول أن تترحل، دائماً، خارج حدودك، فالعائلة الحقيقية تنتظر وصولك في منطقة أبعد، وربما أقرب مما تتصوَّر.. إذا أمعنت الحواس أكثر!