#منوعات
نوال نصر 30 يونيو 2023
اسمها «جميلة»، وهي جميلة، جذابة، حنونة، وقريبة جداً من القلب. نراها تضحك حينما نضحك، وتحزن حينما نعبس. نشعر بها متوترة أحياناً، ومرتاحة ومنبسطة في أحيان أخرى. البارحة، قررت جميلة تقديم استقالتها من عملِها في مكتب للمحاماة. كتبتها ووضعتها أمام مدير المكتب، وغادرت. لم تشأ أن تتكلم.. هكذا هي تأخذ قرارات فجائية، لأسباب شخصية بحتة. لكن، حينما أصرّت صديقتها المقربة على معرفة السبب، أجابتها: «يبدو المدير حانقاً عليّ، أشعر بأنه يكرهني، أشعر بأن وجودي في المكتب بات عبئاً». طلبت منها صديقتها إيضاحات أكثر، وسألتها عما إذا كان قد بادر مديرها بقول كل ذلك؛ فأجابتها: «لا.. هذا ما شعرتُ به».
جميلة (37 عاماً) حساسة جداً، وهي ليست المرة الأولى التي تتخيّل فيها أشياء تتصرف حيالها انطلاقاً من شعورها. حياتها مربكة، فهل تعاني مشاكل نفسية؟.. هل الحساسية المفرطة مرضية؟.. وهل هي طبيعة عند الإنسان أم تُكتسب؟.. وهل يمكن مداواتها ليُصبح الإنسان الحساس أكثر قدرة على التفكير في نفسِهِ لا في الآخرين؟.. «جميلة» تتنظر جواباً، وأخصائية علم النفس العلاجي العصبي، بيارات الخوري، بحثت حالتِها، وحالات من يدفعون أثماناً باهظة بسبب «رهافة الإحساس العالية» أو «الحساسية المفرطة».
لا يجرؤ كثيرون على قول: «لا»؛ ليس لأنهم يخافون، لكن لأنهم يريدون أن يروا كل مَنْ حولهم مرتاحين؛ فهم يعملون من أجل الآخر لا من أجل أنفسهم. وحينما يرون غضباً في عينَي الآخر؛ يشعرون - بشكلٍ تلقائي عفوي - بأنه موجّه إليهم. يشعرون بأنهم السبب، ويدخلون في متاهة التخيلات، التي تنهكهم. أمر هؤلاء - باختصارٍ - صعب. أخصائية علم النفس العلاجي العصبي، بيارات الخوري، تحدد الإنسان الحساس بقولها: «هو كل شخص جهازه العصبي المركزي حساس على محفزات جسدية، عاطفية، وخارجية. ومشاعر هذا الشخص تكون جياشة أكثر من سواه، ونراه أكثر ارتياحاً حينما يجد نفسه في الطبيعة، يصغي إلى خرير المياه، حيث يشعر بسلام وطمأنينة، في حين قد نراه يشعر بالقلق والتوتر إذا شعر بنظرة غير عادية في عينَيْ أحدهم. سيشعر بأن ذاك الشخص مستاء منه، ما يقحمه في دائرة القلق.
الوعي الذاتي
هناك جينات عند بعض الأشخاص تعزز لديهم الحساسية المفرطة، وهناك أيضاً العامل الوراثي، ويُقصد به ما نتوارثه، مثلنا مثل الفريسة التي لديها حواس تمكنها من الهروب من المفترس، وتولد مع الإنسان. وهناك، ثالثاً، تلك العلاقة التي تحكم الصلات مع الأهل؛ فيتعلم الطفل أشياء تكوّن شخصيته، وتطبعها. أما رابعاً، فهناك البيئة الجغرافية المحيطة، التي يحيا فيها إنسان معين، تحت ظروف معينة، تعزز فيه الأحاسيس تجاه مسائل ما. ويمكن أن تتضافر كل تلك العناصر في شخص واحد، أو أن يواجه إنسان ما عاملاً واحداً.
لننتقل من العموميات إلى الخصوصيات.. ماذا عن حالة «جميلة»، ومن هم مثلها؟ ماذا لو قصدت «جميلة» العيادة النفسية؟.. كيف ستتعامل معها بيارات الخوري، من الألف إلى الياء؛ لانتشالها من «رهافة الإحساس العالية»، التي ترهقها نفسياً؟
تقول الخوري: لكلِ علاج نقطة بداية، والبداية في حالة «جميلة»، وأمثالها، تكون بأن تتأكد الأخصائية أن مريضتها تعرف حالتها، وأن حساسيتها المفرطة هي سبب معاناتها؛ فالوعي الذاتي ضروري، فأحرص على إبلاغها بأن أحاسيسها ذات وجهين: (سيئ، وجيّد)، وبالتالي هي نعمة في أحيان كثيرة.
وتستطرد الخوري: أضع ما يشبه الميكروسكوب على السلبيات، من خلال تأكيد أن انزعاج الآخر ليس بالضرورة بسبب خطأ اقترفته «جميلة»، أو من هم مثلها، وبالتالي أحثّ هؤلاء الأشخاص على التفكير المختلف، بعكس ما اعتادوه منذ صغرهم، من أجل أن يبدؤوا بسؤال أنفسهم: ماذا يريدون؛ ليرتاحوا بدل التركيز على ما يريده الآخر منهم؛ ليشعروا بالارتياح. أساعد هؤلاء الأشخاص على تعزيز الوعي الذاتي في داخلهم، وأعلمهم كيف يقولون «لا»، حتى ولو لم يُعجب ذلك أحدهم، ومن دون الشعور بالذنب، وأدعوهم إلى أن يصغوا إلى أنفسهم.
العودة إلى الماضي
لا يعتبر الشخص شديد الحساسية مريضاً نفسياً، لكنه يعاني نفسياً، وحالته قد تتطور إلى قلق واكتئاب، فهو لا يكون قادراً على الخروج من الدائرة الشعورية التي يغرق فيها، وهي النظر في عينَيْ وحركة جسم وملامح وجه الشخص الآخر ليرتاح. صعب حقاً ذلك، فهو يُسقط أي حالة خارجية على نفسِهِ، ويشعر بأن من واجباته القيام بجهد لإراحة الآخر، فالشخص شديد الحساسية إنسان يبقى تعباً طوال حياته.
هذا ليس كل شيء، فالإنسان الحساس يعاني أمراضاً نفسية - جسدية أكثر من غيره، والجسم يُعبّر عما يكبته من خلال أعراض جسدية، مثل: الصداع، والإكزيما، وأمراض الجهاز الهضمي، وهناك أشخاص شديدو الحساسية يعانون هذا النوع من الأمراض، غير مدركين أن أسبابه نفسية.
إغداق النصائح قد يبدو سهلاً، لكن كيف يمكن مساعدة هؤلاء الأشخاص، وبينهم «جميلة»، بالفعل لا بمجرد القول؟ تجيب أخصائية علم النفس: «يخضع من يعاني الحساسية الشديدة لجلسات، أعمل فيها على إعادة تأسيس مجموعة الأفكار والتصرفات لديه، وأساعده على تفكيك الأفكار السلبية وغير المنطقية، ليتمكن من النظر بطريقة ثابتة. بتفصيل أدق، أعمل أولاً على الحاضر من خلال تقنية الحاضر. ثانياً أعود معه إلى الماضي إذا رغب بذلك، ليكتشف الجذور التي كوّنت لديه هذه الشخصية. بشكل عام، يحتاج العلاج السلوكي المعرفي بين 12 و20 جلسة، في حين أن العودة إلى الماضي، للعمل على الحاضر والمستقبل، قد تحتاج إلى فترة علاجية تستغرق أربع سنوات».
عاطفة استثنائية
متى يشعر الشخص شديد الحساسية النفسية بحاجتِهِ إلى مشورة؟.. تقول بيارات الخوري: «إن هذا الشخص يعاني ضغوطاً شتى، وشعوراً دائماً بالنقص، وبتأثيره السلبي في المحيطين به، وإصراره على تحميل نفسه ذنب كل ما يزعج الآخرين من دون أن يعرب عما يزعجه هو. إنه لا يقول: لا لربّ العمل، حتى لو كان مرهقاً. لكن، بما أن داخل كل شخص ما يُشبه الكوب لو امتلأ بالكامل يفور، هذه هي حال الشخص شديد الحساسية، حينما تتراكم الضغوط عليه، إلى حدّ لا يعود معه قادراً على التعامل معها، فينفجر ويدخل في حالة اكتئاب».
بموازاة كل ما سبق، يملك الشخص الحساس هبة، أو لنقل نعمة، تتمثل في عاطفة استثنائية وذكاء، ولديه القدرة على فهم إحساس الآخر، والتعاطف معه، وهو وفيٌّ جداً لأصدقائه الذين يبقون أصدقاء مدى الحياة.. مبدع هو.
وتستطرد المعالجة النفسية بالقول: «هناك نحو 15 إلى 20% من الأشخاص في هذا العالم يتأثرون بآراء الآخرين، ويكونون شديدي الحساسية.
في الختام.. هل من نصائح؟.. تجيب: «ليقرؤوا عن حالتهم، وليفهموها أكثر، وليعلموا أن قول (لا) ليس جريمة، وليس من الضروري الشعور بالذنب، كلما لاح غضب في عينَيْ أحدهم، أو إحداهن، من المقربين منهم. وأن يعربوا عما يريدون هم، وليتذكروا أن وجودهم في حياة الآخرين نعمة لا نقمة».
فنانون.. بالقلب والإحساس
الإنسان صاحب الأحاسيس المفرطة يكون - غالباً - خلاقاً، مبدعاً، وعطوفاً.. وهذه كلها صفات يحتاج إليها الفنان؛ ليُبدع. نعم، هناك فنانون شديدو الحساسية في حياتهم الخاصة، ويميلون - بعيداً عن الكاميرا - إلى الانطوائية. ستيفن سبيلبرغ أحد هؤلاء، وقد اعترف بذلك، قائلاً: «لطالما شعرتُ بالحرج والخجل، وسعيتُ إلى إرضاء الآخرين.. ولو على حساب نفسي».
الممثل والمخرج والمغني البريطاني، المتعدد المواهب، إدريس إلبا، سيفاجئكم؛ فهو خجول وعاطفي وحساس للغاية، فقد قال: «يعتقد الناس أنني أسيطر على تفاصيل حياتي، لكنهم يشعرون بخيبة أمل عندما يقابلونني؛ لأنهم يتوقعون مني أن أكون واثقاً بنفسي أكثر».
عربياً.. ريم السعيدي تجمع في شخصيتها تناقضات الجرأة والخجل والإحساس القوي بالآخرين، فتقول: «يلمس الناس صفة الخجل لديَّ، وأعتقد أنه نتيجة التربية، وهذا ما لا نستطيع الخروج منه حتى لو كنت امرأة قوية، إذ تترسخ العادات التي تربينا عليها، وأعتقد أن احترام الناس والتفاعل معهم قوّة».
الخجل شكل من أشكال القلق، ويمكن أن يكون أكثر حدّة؛ إذا كانت لدينا سمة شخصية ذات حساسية عالية. نيكول كيدمان اعترفت أكثر من مرة بقولها: «أنا خجولة حقاً، لا أحبّ السير بمفردي في مكان مزدحم، وأعتقد أن السبب في ذلك أني شديدة الحساسية».
وحينما نتكلم عن الفنان الحساس، يتقدم اسم الممثل الراحل أحمد زكي، فقد كانت التعليقات تضايقه، وقد قالت عنه الممثلة عفاف شعيب: «كان طيّب وغلبان، وكان يحزن، ويجلس منفرداً، ويبكي بسبب تعامل الناس الوحش معه». أحمد زكي كان مثالاً للفنان الحساس الجميل.
الفنانون الذين يصنفون في خانة الشخصية الحساسة للغاية أكثر بكثير مما تظنون. وهناك علاقة وثيقة، إذ يجمع كثيرون بين الإبداع والإحساس.