#مقالات رأي
لولوة المنصوري اليوم
ماذا عن الأنهار العملاقة؟!.. الأنهار التي كان لها سلف الجريان والتنوير والتحضّر والإضاءة الروحية في حِقَب الحياة البعيدة، الأنهار التي هاجمها فيضان الأتربة، وفق غزوة صحراوية، خطط لها المناخ المتلاحق في الجفاف والعتمة والعراء والقفر، حينما اختارت رحيلها الأبدي!.. ما «الوشم»، الذي تركته خالداً على جسد الصحراء؟
وماذا يحدث للزمن الأرضي، حينما تجف وترحل تلك الأنهار؟.. هل يجف هو الآخر، أم يدخل - من جديد - في دورة أخرى؟
وماذا عن المكان، والأثر؟.. لِما يبدو في جوهره «الميتافيزيقي»، كأنه ذاهب إلى العدم العميق، منعكساً في بقعة ماء خارج الزمن، أو أنه يدير مفتاح «زمن الأزمنة» كلها.. فماذا يترك النهر وراءه بعد رحيله؟!
النهر العظيم، النهر العتيق، الذي امتدّ في الألغاز والحكايات، ترك - على جسد الصحراء - شجرة وحيدة جيولوجية هائلة، وتضاريسية عملاقة، كأنها من حقل «مردة الجن»، ثم غاب أزمنة إلى حيث لا نعلم.
إن شجرتنا المذكورة في هذا النص ليست ضرباً من المجاز، وقبساً من هالة المخيّلة، بل هي حفر جيولوجي بارز، وتجويف عملاق، وخريطة تائهة من الأخاديد والجداول «الناشفة»، ولوحة واحدة تشكّلت من ضربات الماء القديم لملامح شجرة ربّانية عارية عملاقة هائلة (جذع صلد/ أغصان، وفروع طرية).
النهر العظيم في الصحراء لم يمت، لقد فُقِد بين إغفاءة الزمن وانتباهته. فها هو حاضر بقوته الجبّارة في أيقونة روح جافة، ينبت له - على مر العصور - جسد زمني، يكبر نحته في اليابسة والحجر، وفق أوركسترا النور والرمل والألغاز الكونية.
يا تُرى، من أي زاوية سماوية عميقة، تبدّت وتجلّت تلك اللوحة الشجيرية الغائرة في الوجود العظيم؟!
لم يكن حلماً، ولم تكن فكرتي سيريالية، لقد تراءت لي تلك اللوحة من سماء تَبْعُد عن مدينة (الأقصر) المصرية الأثرية بـ200 كيلومتر تقريباً. تأتي العروق والأغصان الرملية الجوفية كأول مشهد افتتاحي، يتعرّج بالجمال من مشاهد الأرض الشجيرية، ومرتفعات، ووهادٍ متورمة نحو اللانهاية منذ آلاف السنين، وصدوع حادة، وأبراج جبلية مقوّضة على شكل أغصان.
ومنذ مئات السنين وأكثر، كان النهر هناك، يربط الجبال بالبشر، كان جسراً للبقاء!
لقد انكسر ذلك الجسر النهريّ، فبدت آثاره كأنها ظلال تجريدية، لأغصان شجر تساقطت عنه الأوراق. وبدا لي كما لو أن هناك انتماءً واضحاً لشجرة ما، شجرة وجودية، ملخص تكوينها نحت نهري، حُفِرَ ورُسِم بيد النهر، وولادة كائن يضحك وسط صحراء رملية حصوية في منتهى الجفاف والموت.
وكان السؤال الكبير: ألا يمكن أن تتكرر تلك المنحوتة النهرية في صحراء عظيمة أخرى من صحاري العالم؟!
يشدنا المدى، الغني بالمعاني والدّوال والخيال، المدى المتاح لتشكيل صور تتجاوز الواقع، الذي يقدم نفسه؛ بوصفه فضاءً كونياً مفتوحاً على امتداداتٍ من الإشارات السحرية.
بدأ المدى يشدّنا من جديد.. الشدّ نحو البحث أكثر في صحراء الإمارات تحديداً، بعد تساقط الأمطار الغزيرة، فقد توجه المصور الفوتوغرافي أحمد الناجي إلى صحراء الظفرة في أبوظبي، حيث ملتقى الأودية بالبحر، وتشكلات الأرخبيل المدهش، وبينما كان يبحث عن تكوينات فريدة، فوجئ بهدية غير متوقعة من الطبيعة، إنها «وردة الطبيعة» كما سماها، تلك هي الوردة نفسها، اللوحة الشجرية التي رأيتُها في صحراء الأقصر.. إنها «رسائل الماء» التي يرسمها على الأرض قبل رحيله.. رسائل الجمال والمحبة والسلام!