#منوعات
زهرة الخليج - الأردن اليوم
في مشهد الأعمال العالمي، تمر أسماء كثيرة وتخبو، لكن هناك شخصيات لا تُنسى، ليس بسبب ثروتها فقط، بل بسبب مواقفها، ورؤيتها، وتأثيرها الممتد خارج حدود الأرقام. وأحد هؤلاء هو راتان تاتا، رجل الصناعة الهندي، الذي قاد تكتل «تاتا» العائلي إلى العالمية، تاركًا وراءه سيرة نجاح استثنائية امتدت لعقود، وامتزجت فيها الحنكة بالبساطة، والجرأة بالحكمة.
تاتا، الذي رحل عام 2024، عن 86 عامًا، صنع إرثًا لا يُقاس بالمال وحده، بل بما ألهمه من قيم، وما وفره من فرص، وما مثّله من رمز للنزاهة في زمن صاخب بالتقلبات.
-
راتان تاتا.. بنى إمبراطورية بأخلاق نادرة وترك إرثًا يتجاوز الأرباح
من مومباي.. إلى العالم:
وُلد راتان تاتا عام 1937، بمدينة مومباي لعائلة «بارسية زرادشتية» ذات نفوذ، وسط أجواء تسودها التقاليد والثقافة والانضباط العائلي. ورغم طلاق والديه في سن مبكرة، فإن جدته كانت بمثابة الركيزة العاطفية، التي منحت حياته استقرارًا خاصًا.
درس تاتا في أرقى المدارس الهندية، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة؛ ليكمل دراسته في هندسة العمارة بجامعة كورنيل. وعمل لفترة قصيرة في لوس أنجلوس، وهناك كاد أن يتزوج، لكنَّ ظروفه العائلية، واستدعاءه المفاجئ إلى الهند، إلى جانب مرض جدته، غيّرت مسار حياته، وحرمته حباً كبيراً، لكنها أعادته إلى جذوره، حيث كان قدره الحقيقي في «تاتا».
قيادة غير تقليدية:
بدأ تاتا من قلب الورش، في مصنع الصلب العائلي، ثم شق طريقه نحو المناصب الإدارية حتى تولّى رئاسة المجموعة عام 1991، خلفًا لعمه الأسطوري، جي آر دي تاتا. وجاء ذلك في وقت حرج، كانت فيه الهند تنفتح اقتصاديًا على العالم، وتحتاج إلى رجال يؤمنون بالمغامرة المنظّمة، وهذا ما فعله تاتا تمامًا. فلم يتعامل مع المجموعة كمجرد شركة، بل كمؤسسة ذات رسالة، وسعى إلى تحويلها من اسم محلي ضخم إلى لاعب عالمي. بدأ ذلك عام 2000، بشراء شركة الشاي البريطانية «تيتلي تي»، ثم أعقبه بالاستحواذ على عملاق الصلب الأوروبي «كورَس» عام 2007، يليه الاستحواذ الأبرز على «جاغوار لاند روفر»، من شركة «فورد» عام 2008.
ليس كل رهان ناجحًا.. ولكن كل رؤية جريئة:
لم تكن جميع خطوات تاتا خالية من الأخطاء. فقد جاء شراء مصانع الصلب قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية، ما أدى إلى تراجع أرباحها لاحقًا. كما أن مشروعه الطموح لإنتاج سيارة شعبية منخفضة السعر (تاتا نانو)، باء بفشل تجاري، رغم النية النبيلة التي كانت وراءه. لكنّه، في كل مرة، لم يتراجع عن مسؤوليته، وكان يقر علنًا بما حدث، ويواصل المسير نحو أهدافه الكبرى. وما يميّزه عن كثير من القادة أنه لم يتعامل مع الفشل كعارٍ، بل كجزء أصيل من التجربة الإنسانية.
-
راتان تاتا.. بنى إمبراطورية بأخلاق نادرة وترك إرثًا يتجاوز الأرباح
الإحساس بالواجب يتقدّم على الطموح الشخصي:
رغم إمبراطوريته، إلا أن تاتا عاش حياة بسيطة نسبيًا. فقد عُرف بمحبته للحيوانات، وكان يسمح للكلاب الضالة بالوجود في بهو مقر شركته الرئيسي، كما دافع دائمًا عن الجانب الأخلاقي في القرارات الكبرى، ولم يُعرف عنه الترف أو العزلة النخبوية.
تكريمات بلا ضوضاء:
عام 2014، نال تاتا لقب فارس فخري من الملكة إليزابيث الثانية، تقديرًا لإسهاماته في تعزيز العلاقات الهندية-البريطانية. غير أن تاتا ظل، رغم كل شيء، رجلًا هادئًا، يفضّل الفعل على القول، والابتسامة على الاستعراض.
اليوم، تقف «تاتا» كمجموعة عالمية مؤثرة في مجالات تمتد من السيارات إلى الطاقة المتجددة، ومن الشاي إلى التكنولوجيا. لكن أعظم ما تركه راتان تاتا ربما هو ذلك النموذج من القيادة، الذي يوازن بين العقل والقلب، وبين الجرأة والتواضع، وبين السعي إلى المجد والحرص على الأثر الإنساني.
في إحدى مقابلاته الأخيرة، قال بتواضع: «أتمنى أن يُقال عني إنني قدت المجموعة بكرامة، وحاولت أن أفعل الشيء الصحيح. لن يُرضي ذلك الجميع، لكنه كان هدفي».. وربما كان ذلك أصدق ما يُقال عنه فعلًا.