#مقالات رأي
لولوة المنصوري اليوم
أتخيلُ الموسيقى نبعاً، أو خَيْلاً، أو شجرةَ معبد، أو غابةً من الرِّيش.. أتخيلها جديلةَ صبيةٍ، تحيطُ بالغيوم والأنهار والجبال.. أتخيلُها في النبات البدائي، في أول سنبلة شقّت وريد الأرض، ونهضتْ.. أتخيلها في الدَّم، وفي أول الطين، وفي الصلصال البدئيّ؛ لتشكُّل الجِلد والأظافر.. أتخيلها في أصابعي، وُلِدَتْ مع أول ابتهاج لعناصر الخلق والتكوين، منذ «هسهسة» الكواكب وولادة النجوم، إلى اتحاد حجرَيْن على الأرض، وتلاقي قبائل الصخور، واتفاقها على تشكيل الجبال.. أتخيلُ الموسيقى في ضوء «الضريح»، وظل السماء.. أتخيلها، أيضاً، في الشفق السحريّ على غرب الكوكب، أو في جوف الأرض، والكهوف المعتمة، وفي السكون العظيم.. الموسيقى في الفراغ، في الصمت أيضاً، فما أن يختار المرء صمته؛ حتى تتدفق إليه موسيقاه الداخلية، موسيقى الحياة الأزلية، وحياة الأرحام.. أتخيلُ الموسيقى في كل شيء، وفي انعدام الأشياء!
أتذكّر صوت جدتي، وهي تخبز وتغني؛ فأنساق إلى التساؤل حول منشأ ألحانها، منشأ الأغنية الشعبية، فلاشك في أنها مسافرة من أبعادٍ قصيَّةٍ في الوجود إلى طبقات أعمق في ذاكرة الأرض، حيث المجاورة الحسية بين الإنسان والطبيعة، فالوجود - بأكمله - لحن وغناء وأناشيد وتراتيل ومنظومات شعرية كونية، هذه المجاورة والتأصل في مكنون الطبيعة ولّدا في الإنسان الأول تناغماً ومشاكلة لأصوات الطبيعة، فأصغى جيداً، واندهش، ثم تفاعل وقلّدها، ولهذا فإن الألحان والأناشيد الأولى كتبتها الطبيعة، وغنتها بنسق إلهي منظم.
وهنا.. يمكننا القول بأن حواس الإنسان قد جاشت بالشعر المُغَنَّى من وحي تأمله، وانسجامه الداخلي مع موسيقى الأرض والحياة؛ فاحتك بالطبيعة، وابتدع مع كل حِرْفة أهزوجة خاصة. فزرع في حقله الحبوب والحنطة والشعير وسط كرنفال من الغناء والأهازيج. وفي مواسم الحصاد، تضج الجبال بالنداءات والأناشيد والتلبيات المنتشية بالعزة والرجولة، وابتدعت الأم لوليدها أناشيد المهد، كما أنها قرضت الشعر، وغنت بين الحقول، والنخيل، وتنور الخبز، وأفران الفخار، وموارد المياه.
هكذا كان لكل حرفة أهزوجة وأنشودة ولحن، ولكل مناسبة أغنيات خاصة، وهكذا جئنا نحن الكُتّاب إلى هذا المنهل الإبداعي العظيم، نغرف من أعماقه، ونصوغ من إلهامه ما يمنح السرد والشعر مداً موسيقياً منعشاً للنص الأرضيّ، ومحركاً لنبض تفاصيله.