كبسولة «الضوء السحري» ومستقبل إنقاص الوزن
#تغذية وريجيم
تغريد محمود اليوم
تخيّلي أن كبسولة ضوئية دقيقة، لا يتعدّى حجمها حبة فيتامين، تدخل جهازك الهضمي؛ لتُطلِق ومضات من الضوء، تتحكّم في أعصاب خفية تنظم الهضم، وتؤثر في الشهية، والحالة المزاجية. ما يبدو - للوهلة الأولى - مشهداً من فيلم خيال علمي؛ أصبح اليوم إنجازاً واقعياً، أدهش الأوساط العلمية حول العالم. ففي مختبرات جامعة نيويورك أبوظبي، ابتكر فريق من العلماء كبسولة ضوئية ذكية، كخطوة غير مسبوقة نحو فهم أعمق لما يُعرف بـ«الدماغ الثاني» في أجسامنا، أي الجهاز العصبي المعوي، الذي يدير حركة الأمعاء، ويؤثر في العديد من وظائف الجسم الحيوية.
هذا الاكتشاف المذهل لم يأتِ صدفة، بل هو ثمرة أبحاث طويلة في علم التحكم الضوئي بالجينات (Optogenetics)، وهو مجال علمي حديث يتيح للباحثين تحفيز الخلايا العصبية أو إيقافها؛ باستخدام الضوء فقط، بعد جعلها حساسة له عبر تقنيات وراثية متقدمة. وبهذه الكبسولة الصغيرة، لم يعد العلماء بحاجة إلى الجراحات المعقدة، أو الأدوات الغازية لدراسة الجهاز الهضمي؛ إذ يمكنهم ببساطة توجيه الضوء - بدقة - نحو أعصاب محددة داخل الأمعاء؛ لتفعيلها ومراقبة تأثيرها في حركة الجهاز الهضمي، أو حتى في إفراز الهرمونات المرتبطة بالجوع والمزاج.
ما المقصود بـ«الكبسولة الضوئية»؟
اسمها العلمي COPS) Ingestible Controlled Optogenetic Stimulation)، أي كبسولة قابلة للبلع، تُدخل ضوءاً مُوجَّهاً داخل الجهاز الهضمي؛ لتحفيز خلايا عصبية مُعدَّلة وراثياً؛ لتستجيب للضوء. عملياً، ليس الهدف الآن حرق الدهون مباشرة، بل فهم وتعديل شبكات الأعصاب المعوية، التي تؤثر في الشهية، وامتصاص المغذيات، وإشارات الشبع. إنها ثورة علمية إماراتية، تنقلنا إلى عصر جديد من الطب الذكي غير الجراحي، حيث يصبح الضوء نفسه أداة علاجية، تفتح آفاقًا لعلاجات مبتكرة للسمنة، واضطرابات الأكل، وأمراض الجهاز الهضمي المعقدة.
-
كبسولة «الضوء السحري» ومستقبل إنقاص الوزن
الأمعاء دماغ ثانٍ
منذ سنوات طويلة، يحاول العلماء فهم كيفية تحكم أمعائنا في الجسم. لكن المشكلة أن دراسة هذا الجهاز العصبي المعقد كانت تتطلب، دائماً، عمليات جراحية معقّدة، تجعل من الصعب مراقبة وظائفه الطبيعية داخل الجسم. وهنا جاء فريق جامعة نيويورك أبوظبي بحل عبقري، هو كبسولة تبتلعينها، تقوم بالمهمة دون مشرط أو تدخل جراحي.
هندسة دقيقة.. بلا بطارية
هذا الاختراع ليس مجرد فكرة ذكية، بل تحفة هندسية متناهية الدقة. فالكبسولة لا تحتوي على بطارية، بل تعمل بالطاقة اللاسلكية عبر حقل مغناطيسي خارجي، يمدها بما تحتاج إليه من طاقة لتشغيل الضوء. هذا التصميم سمح بتصغير حجمها؛ لتناسب تجارب على القوارض، مع إمكان تطوير نسخ أكبر لاحقاً للبشر. وقد صُنعت الكبسولة بالكامل داخل المختبر باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، دون الحاجة إلى غرف تصنيعية معقّمة، وهو إنجاز قلّ أن يتحقق في مثل هذه الأجهزة الدقيقة.
خطوة نحو علاجات الغد
ما يجعل هذا الاكتشاف محط الأنظار أن نتائجه لا تتوقف عند حدود البحث العلمي. فالكبسولة تمكّن الباحثين من تحديد المناطق العصبية، التي تتحكم في حركة الأمعاء، ما يمكن أن يقود إلى تطوير علاجات دقيقة لأمراض عدة. والأدوية المتوافرة، اليوم، إما تسرّع أو تبطئ حركة الأمعاء ككل، دون تمييز. بينما تسمح الكبسولة الجديدة بتحفيز مناطق محددة فقط، ما قد يعني تحكماً أدق، وذا آثار جانبية أقل. وفي حين كانت الأبحاث السابقة تعتمد على التحفيز الكهربائي أو المغناطيسي، فإن الكبسولة السحرية أضافت بُعداً جديداً، هو التحكم في الضوء، الذي يسمح بدقة متناهية في توقيت واستهداف الأعصاب.
علاج بالضوء.. وتحكم في الأيض من الداخل
تحمل هذه التقنية وعوداً مستقبلية واسعة؛ فبفضل تصميمها اللاسلكي الصغير، يمكن تطوير نسخ من الكبسولة، تستخدم في العلاج بالضوء الداخلي لبعض أمراض الجهاز الهضمي، والتحفيز الكهربائي، أو إطلاق أدوية في أماكن محددة داخل الأمعاء، وحتى تحسين عملية الأيض عبر التحكم العصبي في الهرمونات الهضمية. ويستغرق مرور الكبسولة في الجهاز الهضمي يوماً إلى يومين فقط، وتخرج بشكل طبيعي دون أي تدخل، ما يجعلها آمنة وسهلة الاستخدام، حتى في التجارب طويلة الأمد.
ختاماً.. إن الكبسولة الضوئية، التي وُلدت في مختبر بأبوظبي لا تمثّل إنجازاً علمياً فحسب، بل رمز لمرحلةٍ متقدمة من الابتكار العربي في العلوم الطبية، والهندسة الحيوية. إنها تجسّد فكرة أن الأمل في صحةٍ أفضل قد يأتي من وَمْضة ضوء صغيرة، لا تُرى بالعين، لكنها قادرة على تغيير فهمنا للجسم والعقل معاً. وهذه الكبسولة قد لا تكون - بَعْدُ - الحل السريع لإنقاص الوزن، لكنها بلا شك خطوة حاسمة نحو مستقبلٍ واعد في الطب العصبي المعوي، وإعادة تعريف العلاقة بين الأمعاء والعقل، والتكنولوجيا والجسد، والضوء والحياة.