خالد الخاني: أترك للمشاهد جزءاً من الحكاية
#منوعات
لاما عزت اليوم
وحده الفنان يجعل من اللون سيرةً، ومن الذاكرة وطناً، ويحوّل الألم إلى جمالٍ يبقى.. خالد الخاني، الفنان التشكيلي الذي يحمل أنين النواعير الرومانية على ضفاف العاصي، ويطرق أبواب المدن؛ ليصل إلى قلبها، فلا يجد لغة أصدق من اللون والتعبير. ففي لوحاته، نرى المرأة تُمسك بخيوط الصبر؛ لتكتب روايتها، كأنها تكتب روايته هو أيضاً. يتقاطع الحنين مع الضوء، وتنبض الوجوه كأنها مرايا للروح، فتروي ما عجزت عنه اللغة. عَبَرَ الخاني بالعاطفة والفرشاة من دمشق إلى باريس، حاملاً وجوه الناس، ورائحة الجدران، وملامح المدن التي لا تنام. فهو ابن المكان، يرسم لتتذكّر اللوحة ما نسيه العالم، ويبحث في مساحاتها عن لحظة صدقٍ بين اللون والصمت؛ فيصوغ من عمق الشرق، ورهافة الغرب، فلسفةً جمالية بهدوء من يرمم بالفرشاة ما كسره الزمن.. «زهرة الخليج» التقت الفنان التشكيلي، الذي يرى الفنّ طريقاً للنجاة، ولغةً للبَوْح الإنساني العميق؛ فحدثنا عن البدايات، واللون، والمرأة، والجمال الذي يقاوم الفناء:
-
خالد الخاني: أترك للمشاهد جزءاً من الحكاية
نتوقف عند خالد الفنان.. كيف تنظر إلى الفن، فهل تراه قدرك، أم خيارك، وكيف تدلل هذا الفن؟
بالنسبة لي، الفن لم يكن خيارًا عقلانيًا، فقد وجدني قبل أن أجده. ربما كنت أبحث عن طريقة أقول بها ما لا يمكن قوله بالكلمات؛ فكان اللون لغتي الأولى والأصدق. الفن لا يعد مهنة لي الآن، إنه طريقتي في البقاء، والفهم، ومقاومة القبح بالعاطفة والجمال.
ألوان الذاكرة.. والإنسان
أنت من أسرة يغلب عليها التوجه العلمي.. كيف رسمت طريقاً مختلفاً؟
رغم نشأتي في بيئة يغلب عليها الطابع العلمي، إلا أنني - منذ طفولتي - كنت أبحث عن معنى آخر للمعرفة، يتجاوز العقل إلى الحسّ؛ فكنت أرى في الرسم أداتي الأصدق؛ للتعبير عمّا لا يُقال، ونافذتي لفهم العالم والذات. ربما بدا الطريق الذي اخترته غريباً، أو صعباً في أوله، لكنه كان الطريق الوحيد الذي يشبهني، وينسجم مع ما أحمله بداخلي.
-
خالد الخاني: أترك للمشاهد جزءاً من الحكاية
أعمالك تمتاز بتعبيرية قوية، وبحضور إنساني عميق.. كيف تصف «لغة اللون» في لوحاتك؟
اللون ليس عنصراً زخرفياً فقط، بل كائن حيّ يحمل ذاكرةً وانفعالاً؛ فهو صوتٌ داخليٌّ أكثر منه رؤية بصرية؛ أسمعه قبل أن أراه. أحياناً، يصرخ الأحمر كنداء، وأحياناً يهمس الرمادي كحكاية لا تنتهي.
في أعمالك، كثيرًا ما تتأرجح الوجوه، والهيئات، بين الغموض والوضوح.. لماذا؟
أحب أن أترك للمشاهد جزءاً من الحكاية؛ فالغموض هو المساحة التي يتنفس فيها المتلقي؛ فلا أبحثُ عن تقديم إجابات جاهزة، بل عن أسئلة تومض على وجهٍ، أو في ظلّ عيون؛ لأن اللوحة - في رأيي - لا تكتمل إلا بنظرة من يقف أمامها.
هل ترى الفن أسلوب حياة، يتجاوز اللوحة إلى الطريقة، التي يعيش بها الفنانُ يومَه؟
الفن ليس مجرد ممارسة، بل أسلوب حياة كامل؛ فحين يكون الإنسان فناناً بحق، تصبح نظرته إلى العالم مُشبعة بالحسّ الجمالي، والبحث عن المعنى، حتى في أبسط التفاصيل. إن الفنان لا يرسم بالفرشاة فقط، بل بكلماته، وخطاه، وصمته. فالفن يتسرّب إلى كل لحظة من يومه، حتى في طريقة إعداد القهوة، أو ملاحظة الضوء على الجدار، كأنه يجعل من حياته عملاً فنياً متواصلاً.
-
خالد الخاني: أترك للمشاهد جزءاً من الحكاية
بين مدينتَيْن
بين دمشق وباريس.. ما الذي منحتك إياه هاتان المدينتان على المستوى الإبداعي؟
دمشق منحتني الجذر، والذاكرة، والوجوه الأولى التي شكّلت بصري، ووعيي الفني. وفيها تعلّمت أن أرى المعنى خلف التفاصيل، وأن أستمع إلى صمت الجدران، وملامح الناس. أما باريس، فقد وهبتني الضوء، والمسافة التي أحتاجها لأرى نفسي من بعيد. هناك أدركت أن الجمال ليس كاملاً، بل هشٌّ وعابرٌ، ومهمة الفنان أن يلتقط تلك اللحظة قبل أن تضيع. أحمل من دمشق عمق الشرق ودفء الحنين، ومن باريس حريّة الغرب وتأمل الضوء، وبينهما أعيش توازناً يشبهني، ويترك أثره في كل لوحة أرسمها.
المرأة في أعمالك نراها غائمة النظرات.. حدثنا عما وراء اللوحة، وما فيها؟
المرأة لديَّ ليست موضوعًا فنيًا، بل كيان روحي، فهي الحضور الدائم للحنين، والعطاء، والدهشة. أحيانًا، تكون وجهًا فقدت ملامحه في الذاكرة، وأحيانًا ظلاً لجمال لا يُمس. إنها المرآة التي أرى فيها نفسي، والعالم.
-
خالد الخاني: أترك للمشاهد جزءاً من الحكاية
ما الشعور الذي ينتابك حين تواجه جمهورك، خلال افتتاح أحد معارضك؟
هي لحظة شديدة التوتر، فكأنك تكشف روحك أمام الغرباء. أحيانًا أشعر بالخوف، وأحيانًا بالامتنان. فحين تغادر اللوحة مرسمي لا تصبح ملكًا لي؛ لأنها تصبح جزءًا من حياة شخص آخر.
قدّمت معارضك في كبرى مدن العالم.. هل يختلف تلقي الفن من مدينة إلى أخرى؟
كل مدينة تنظر إلى الفن من زاوية خاصة؛ فأبوظبي، مثلًا، مدينة تنبض بالثقافة والفن، وتبني الوعي الإنساني بالجمال؛ لذلك حين أقيم معارضي بها أشعر بقرب الجمهور ودفئه، وبأن الحوار مع اللوحة يتحوّل إلى حوار روحي. أما باريس، فهي مدينة التأمل والصمت، حيث يولد الضوء من الحنين. وفي نيويورك أجد الحركة، والجرأة، والإيقاع السريع. بينما في عمّان هناك عاطفة تشبه ذاكرة البيت الأول. ولكل مدينة طاقتها الخاصة، التي أدعها تتسلل إلى قلبي، وأعمالي.
ما المشروع، الذي تطمح إلى تحقيقه؟
أحلم بمشروع فني يرصد ذاكرة المكان السوري، لا كوثيقة بصرية فحسب، بل كنبضٍ إنساني، يخلّد وجوه الناس، وحكاياتهم. كما أتمنى أن أترك أثراً صادقاً، يعبّر عن الإنسان قبل أي شيء، وأن أواصل البحث؛ لأن اللوحة التالية، دائماً، احتمال جديد للحياة. فأنا لا أرسم لأزيّن الجدران، بل لأضيء العتمة، التي نحملها بداخلنا.